الحرب ضد الحجاب قديمة بدأت في مصر منذ أكثر من مائة عام؛ حيث ظهر أول صوت من أعداء الإسلام وأنصار التغريب ضد حجاب المرأة المسلمة، ومنذ ذلك الحين لم تهدأ المعركة التي اشتعلت نيرانها في أماكن كثيرة من العالم الإسلامي بل وغير الإسلامي.
وكانت أول شرارة في تلك المعركة من الجانب التغريبي في مصر من صديق اللورد كرومر (مرقص فهمي) في كتابه المرأة في الشرق عام 1894م، ولكنها لم تُحدث أثراً كالطلقة التي أطلقها قاسم أمين في كتابه المسمى (تحرير المرأة) عام 1899م؛ وذلك بعد عودته من إتمام دراسته في فرنسا. ويلاحظ تلك النقطة الهامة ألا وهي المتعلقة بعودة قاسم أمين من فرنسا وتأليفه كتاباً سماه (تحرير المرأة). ثم بعد أكثر من مائة عام تأتي فرنسا لتمنع الحجاب وهي الحاضنة لكل الأفكار التي تعادي الحجاب، وقد أحدث الكتاب ردود فعل شديدة وخاصة في التيار الإسلامي والمحافظ، خاصة بعد أن أشارت بعض الأخبار إلى دور الشيخ محمد عبده في وضع بعض فصول الكتاب، ولكن طلقة قاسم تم الرد عليها بمائة طلقة أو مائة كتاب ترد على شبهات وأباطيل قاسم أمين كان أبرزها كتاب (قولي في المرأة) للشيخ مصطفى صبري، واشتعلت نيران حرب ضد الحجاب لم تنتهِ، ومن الملفت للنظر أنه انبرى من التيار المحافظ طلعت حرب مؤسس الاقتصاد المصري للرد على قاسم أمين في كتابين هما كتاب (تربية المرأة والحجاب) والآخر (فصل الخطاب في المرأة والحجاب)، شن فيهما هجوماً شديداً على قاسم أمين، وانبرى الزعيم الوطني مصطفى كامل للرد على قاسم أمين عقب صدور الكتاب مباشرة في شهر سبتمبر 1899م في خطبة له بالقاهرة في أول اجتماع للحزب الوطني جاء فيها: (فلا يليق بنا أن نكون قردة مقلدين للأجانب تقليداً أعمى، بل يجب أن نحافظ على الحسن من أخلاقنا، ولا نأخذ من الغرب إلا فضائله؛ فالحجاب في الشرق عصمة أي عصمة؛ فحافظوا عليه في نسائكم وبناتكم، وعلموهن التعليم الصحيح، وإن أساس التربية التي بدونه تكون ضعيفة وركيكة هو تعليم الدين) وفتح مصطفى كامل جريدة اللواء لكل الكتاب للرد على قاسم أمين. وصل صدى الكتاب إلى العراق والشام وانبرى الشعراء والكتاب للرد عليه مثل الشاعر العراقي البناء حيث قال:
وجوه الغانيات بلا نقاب تصيد الصيد بشرك العيون
إذا برزت فتاة الخدر حسرى تقود ذوي العقول إلى الجنون
واهتم الإنجليز بترجمة كتاب قاسم أمين وعرضه حتى وصل خبر وموضوع الكتاب مترجماً إلى الهند؛ واهتمام الإنجليز بترجمة الكتاب ونشره يدل بوضوح على أن الحرب ضد بلاد المسلمين لم تقف عند احتلال الأراضي فقط. ولقد رعى الإنجليز هذا التيار التغريبي، وانضم إليهم سعد زغلول، وألقت هدى شعراوي بحجابها، إعلاناً بدخولها المعركة عملياً، وألف قاسم أمين كتابه الثاني (المرأة الجديدة) على خطى ومنوال الكتاب الأول، وتصدى له أيضاً مصطفى كامل. والملفت أن القصر وقف مؤيداً التيار الإسلامي والمحافظ في تلك المعركة التي أسفرت في ذلك الوقت عن ظهور وتفوق التيار الإسلامي والمحافظ (ولكن أعداء الحجاب ظل لهم وجود وإن كان ضعيفاً) وظهر تفوق أنصار الحجاب في موقف الملك فؤاد عندما استضاف ملك أفغانستان أمان الله الذي انهزم أمام أعداء الحجاب، وكانت زوجته ثريا سافرة، وعندما علم الملك فؤاد بذلك ألغى الزيارة، ثم وافق على شرط ان تكون إقامة الملكة غير رسمية ولا تظهر في أي تجمع، بل ولا تظهر سافرة أبداً حتى تغادر مصر، ووافق على ذلك الملك أمان الله. (يلاحظ أنه بعد تحرير أفغانستان من الاحتلال السوفييتي كان الحجاب الافغاني من أهم معالم أفغانستان التي عمل الاحتلال الأمريكي بعد ذلك على طمسها بكل السبل) ولكن كان لمركز سعد زغلول السياسي أثره في تقوية التيار التغريبي في الحياة المصرية خاصة في قضية الحجاب، حتى إنه بدأ بزوجته صفية كي تكون قدوة للآخريات.
ولقد ساعد التيار التغريبي في حربه ضد الحجاب عدة عوامل أهمها:
1- سقوط الخلافة الإسلامية، وقيام دولة علمانية فرضت خلع الحجاب بالقوة عام 1925م، ولم يكن من قبيل المصادفة أيضاً أنه عندما نصب الإنجليز شاه إيران رضا بهلوي على حكم إيران أن ألغى الحجاب الشرعي، وبدأ بزوجته، فخلع حجابها، وصادف ذلك التوقيت السيطرة العسكرية الاستعمارية للغرب على البلاد العربية والإسلامية مع إظهار تقدمهم الصناعي والتكنولوجي، وإبرازه في الدول المستعمرة لإبهار الشعوب خاصة المثقفين مع ربطهم للحضارة باتباعهم، وإبراز أن التخلف والتأخر في تمسك الشعوب بدينها وعاداتها وتقاليدها، كل ذلك أوجد حالة من الانهزام النفسي عند كثير من المثقفين فتعلقت قلوبهم وعقولهم بكل ما هو غربي، ولم يفرقوا بين النافع والضار لمجتمعاتهم.
2 - انتشار السينما والمسرح، وسيطرة التيار التغريبي على تلك الوسائل، ونشر أفكاره عبر دس السم في العسل.
3 - السيطرة على التعليم عبر منهج دنلوب الإنجليزي والمدرسين الأجانب والبعثات التعليمية للبلاد الأوروبية والمدارس الأجنبية.
4 - السيطرة على الصحافة.
كل هذه العوامل ساعدت في ذلك الوقت في الثلاثينيات على زيادة قوة التيار التغريبي ليس في مصر فقط، ولكن أيضاً في بعض البلاد الإسلامية. وكان أخبث خطط التغريبيين التي تم تنفيذها عبر الوسائل الإعلامية أن جعلوا أعظم أهداف الشعوب هو الجلاء العسكري للمحتلين فقط، أما غير ذلك من فكر وعادات الغرب التي تخالف عقيدة وهوية الشعوب فقد سربوها للناس على أنها وسائل النهضة والتقدم والرقي كي نلحق بركب الأمم القوية. وظل الحال كذلك حتى الخمسينيات، ولم يعرف خلع الحجاب طريقه إلا عند بعض المثقفين المتغربين ومن قلدهم، وانحصر في نطاق ضيق، ولم يتغير الوضع كثيراً مع رحيل الاستعمار وتغير الأنظمة الحاكمة؛ ذلك أن الوطنيين الذين ملكوا زمام الحكم شربت عقولهم كل الأفكار الغربية. ولكن مع ذلك التفوق التغريبي ظهر تواجد قوي تمثل في الإخوان المسلمين وبعض الجمعيات الإسلامية؛ ولكن فترة الخمسينيات في مصر تميزت بصدام الدولة مع الإسلاميين، وأيضاً فترة السيتينات، وتزامن ذلك مع امتداد المد الشيوعي إلى مصر، فظهر تفوق للسفور، وانتشر خلع الحجاب خاصة في المدن، وظهرت تقليعة الميني جيب والميكرو جيب، وكان ذلك لنجاح الفكر الغربي في بناء قاعدة قوية موالية في التعليم والصحافة والفن استطاعت مع ظهور التلفزيون وانتشاره أن تظهر تفوق التيار التغريبي في معركة الحجاب مع خلو الساحة من النشطاء من التيار الإسلامي والمحافظ، وضعف المؤسسة الدينية الأزهرية نتيجة كبت الحريات والاعتقالات، واضطهاد التيار الإسلامي في ذلك الوقت، ولعل في ذلك تأويلاً لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: «صنفان من أمتي لم أرهما قط: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها ظهور الناس، ونساء كاسيات عاريات..»، وقد فسر الحديث انه مع اشتداد طغيان السلطة الحاكمة في بلاد المسلمين يقترن بذلك ظهور النساء كاسيات عاريات، ويؤكد ذلك التفسير الحكم الأتاتوركي في تركيا، والحكم البهلوي في إيران، وبورقيبة في تونس الذي فرض خلع الحجاب على النساء في تونس. إلا أن هزيمة 1967م كانت صدمة أعادت الناس إلى الإسلام، ووضح ذلك في بداية السبعينيات مع حكم الرئيس السادات؛ فمع أنه كان مولعاً بالغرب إلا أن حسابات الواقع فرضت عليه الانفتاح مع الإسلاميين وإخراجهم من السجون والمعتقلات، فعاد التيار الإسلامي إلى التواجد بقوة، وازدادت معركة الحجاب سخونة في مصر، وظهر لأول مرة النقاب في جامعة القاهرة، وظهرت معارض بيع الحجاب في الجامعات المصرية بأسعار زهيدة، وانبرى الدعاة غير الرسميين يحملون اللواء في معركة الحجاب عن طريق المنابر وأشرطة الكاسيت، ولم يسكت التيار التغريبي الذي ازدادت قوته بانفتاح الدولة على الغرب سياسياً واقتصادياً وفي شتى المجالات، وتبوأت الريادة في الفريق التغريبي الصحفية أمينة سعيد، وما لبثت أن دخلت زوجة الرئيس السادات معركة الحجاب؛ ففي حديث لمجلة فرنسية سئلت عن انتشار عادة الحجاب في مصر ورأيها في ذلك، فأجابت: (إنني ضد الحجاب؛ لأن البنات المحجبات يخفن الأطفال بنظرهن الشاذ، وقد قررت بصفتي مدرِّسة في الجامعة أن أطرد أي فتاة محجبة من محاضرتي..».
وقد بلغ قلق التغريبيين من الحجاب مداه بعدما تعدت الدعوة إلى الحجاب والالتزام به التيار الإسلامي إلى التيار المحافظ وإلى عامة الشعب، وتميزت فترة السبعينيات والثمانينيات بظهور التيار السلفي بقوة بجانب الإخوان المسلمين في معركة الحجاب لمواجهة المخالفين بالأدلة الشرعية الواضحة في حكم فريضة الحجاب مما أعطى التيار الإسلامي قوة في المعركة، واندفع كل فريق في المعركة مستخدماً أسلحته: التيار التغريبي استخدم الصحف والمجلات والإذاعة، وكان لظهور التلفزيون مع بداية السبعينيات في الريف والوجه البحري والقبلي أثره البالغ في التبرج وخلع الحجاب فضلاً عن السينما والمسرح. ومن جانب آخر استخدم التيار الإسلامي منابر المساجد والجامعات ومعارض الكتب لبيع الحجاب وأشرطة الكاسيت، وكانت قوته في الالتفاف الشعبي حوله، بينما كانت قوة التيار التغريبي في طبقة النخبة من بعض المثقفين المتعلقين بالتغريب والفنانين والإعلاميين المتغربين، واستطاع التيار التغريبي أن يؤلب النظام ضد الإسلاميين مستغلاً عدة أحداث؛ فاصطدم النظام بالإسلاميين، وكانت أحداث سبتمبر واعتقال معظم الدعاة أصحاب الدور الرائد في معركة الحجاب.. وكان رد الإسلاميين عنيفاً، فقتل السادات، وقال خالد الإسلامبولي قاتل السادات في أسباب قتله إنه ـ أي السادات ـ استهزأ بالحجاب، وقال عن الحجاب إنه خيمة في إحدى خطبه، واصطدمت الدولة بالتيار الإسلامي، وانحسر المد الإسلامي فترة مؤقتة، ثم عاد الوضع في منتصف الثمانينيات كما كان عليه من صراع ونزال بين الإسلاميين والتغريبيين في معركة الحجاب، ولكن في تلك الفترة وقعت مفاجأة مذهلة حيث انضم لمسيرة الحجاب طائفة جديدة أحدث اهتداؤها للطريق الصحيح نكسة وزلزلة لدى التغريبيين وهن الفنانات المعتزلات التمثيل المعلنات عن ارتدائهن الحجاب، ولم يفق التيار التغريبي من تلك الصدمة حتى الآن، ولكنه اجتمع يوجه سهامه ضد تلك الفنانات بكل الطرق والأساليب، ولكن معركته معهن كانت خاسرة؛ حيث ازدادت أعدادهن، ومن ثم لجأ أعداء الحجاب إلى التشكيك، وأدخلوا سلاحاً جديداً في المعركة ضد الحجاب وهو الأفلام والمسلسلات، واستطاع أعداء الحجاب أن يستغلوا الصراع بين الدولة والتيار الراديكالي في أحداث العنف التي وقعت في بداية التسعينيات في الحصول على قرار بمنع دخول المنقبات الجامعات المصرية، ودارت معارك قانونية استطاع فيها التيار الإسلامي أن يفوز بأحكام قانونية لصالح الحجاب، ولكن أعداء الحجاب نجحوا في التضييق على لبس الحجاب في المدارس.
ولكن: هل وقفت الحرب ضد الحجاب بعد مرور أكثر من مائة عام؟ المؤكد أنها لم تقف وإن كانت انتشرت في أماكن كثيرة في العالم الإسلامي بصور شتى؛ ففي تركيا أرض الخلافة الإسلامية العثمانية سابقاً كانت هناك معركة من الدولة ضد الحجاب في الجامعات، بل وضد نائبة في البرلمان بسبب ارتدائها الحجاب، وفي تونس حرب متنوعة ضد الحجاب والمرأة المسلمة بأشكال متنوعة وسافرة.
الحرب ما زالت مستمرة لم تقف، ولعل ما قدمناه في هذه الدراسة الموجزة عن المعركة والحرب ضد الحجاب في مصر وغيرها من بلاد المسلمين يعطينا الرؤية للقرار الفرنسي بمنع الحجاب، فهو يمثل انعكاساً للمعركة، وحالة الاختلاف حول الحجاب في بلاد المسلمين الذي يعد فرضاً شرعياً على كل مسلمة وليس رمزاً أو مظهراً تستطيع المسلمة التنازل عنه، ولكن نظراً لحالة الضعف والتفـلت من الأحكام الشرعية عند المسلمين وتساهل المسلمات في شأن الحجاب كان صدى ذلك القرار الفرنسي الذي لم يجد حول الحجاب قوة تحفظ له مكانته في بلاد المسلمين، وازداد الأمر سوءاً بتساهل بعض المرجعيات الإسلامية في الأمر «شيخ الازهر» وتقديم التبريرات والمسوغات للحكومة الفرنسية في منع الحجاب؛ مع أن القرار يتعارض مع علمانية فرنسا وحقوق الإنسان، ولكن لما هان الأمر عند المسلمين كان اهون عند غيرهم من غير المسلمين.
ولعلهم يتساءلون في حيرة: لماذا تلك الضجـة إذا كان المسلمون لا يتمسكون هم بالحجاب؟
ولكن الحقيقة ان الموقف يدل على زاوية أخري وهي أن الغرب وجد أن علمانيته تحافظ على هوية المسلمين رغم التزامهم بالقوانين؛ فلم يجد مفراً من الدخول في المعركة لإثبات الذات والهوية الغربية التي نجح في ترسيخها عبر وكلاء له في دول المسلمين. ويبقى ان المستجدات بالنسبة لكل تعارض مع أحكام الإسلام سوف تكثر؛ لأن مناخ الضعف والتمزق والانفلات من أحكام الإسلام والتسيب يسود العالم العربي والإسلامي. وأيضاً لا ننسي أن العولمة من مقاصدها تذويب الهوية الإسلامية، والفرصة متاحة الآن في ظل حالة العداء ضد الإسلام المعنونة بـ (الحرب ضد الإرهاب) والحرب ضد الحجاب أهم مدخل لتفكيك هوية المرأة المسلمة التي هي نصف المجتمع وأساس الأسرة؛ فإن انعدمت هويتها تزلزل المجتمع وانهارت الأسرة إسلامياً، وبقي الوجه الغربي ظاهراً في الحياة في بلاد المسلمين. ولكن كما سبق هي معركة لها طرف آخر وهم المتمسكون بأحكام الإسلام الذين يجاهدون بكل الطرق للحفاظ على الهوية والحفاظ على المجتمع والأسرة ليظل الصراع مستمراً. وبقي أن الحرب ضد الحجاب مظهر ووجه من أوجه الصراع ضد الإسلام بأشكال وأنماط مختلفة ومتنوعة.
|