أرسل الله ـ تعالى ـ الرسل، وأنزل الكتب حتى يعرف الناس ربهم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، فيعبدوه وحده ولا يشركوا به شيئاً. وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعث رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس كافة، فختم الله ـ تعالى ـ به الرسالات؛ فكان ذلك إيذاناً أنه لا نجاة لأحد إلا بالإيمان بهذا النبي، والدخول تحت لوائه، وقد فرض الله على رسوله ومن آمن به دعوة الناس إلى الله ربهم، وتبصيرهم بحالهم ومآلهم، وبذل الجهد والطاقة في ذلك، وقد خاض المسلمون في سبيل دعوة الناس إلى ربهم أهوالاً جمة، وتجشموا في سبيل ذلك كثيراً من العنت والشدة، رجاء رحمة الله ورضوانه، والعمل على إخراج الناس من الظلمات إلى النور، لكنهم لم يقوموا بذلك لإكراه الناس على الدخول في دين المسلمين؛ فإن إدخال الناس في الديـن حقاً ليس مقدوراً لأحد كمـا قـال الله ـ تعالـى ـ: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إلاَّ بِإذْنِ اللَّهِ} [يونس: 100]، وقال ـ تعالى ـ: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]، وفي الوقت نفسه فإن إكراه الناس على الإسلام ليس مشروعاً في الدين، كما قال الله ـ تعالى ـ: {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، وقد نفذ المسلمون أوامر ربهم فلم يكرهوا أحداً على الدخول في دينهم، ويدل لذلك أوضح الدلالة وجود اليهود والنصارى وغيرهم في بلاد المسلمين منذ زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وخلفائه الراشدين إلى يومنا هذا، فكان الجهاد والقتال من المسلمين لعدوهم من الكافرين لمنع إكراه الناس على الكفر؛ وإذا كان إكراه الناس على الإسلام لا يجوز فأحرى أن لا يجوز إكراههم على الكفر؛ فقد كان هدف القتال والجهاد في سبيل الله أن يكون وسيلة للتحرر من سلطان الطواغيت الذين يصدون الناس عن عبادة الله وحده؛ وذلك حتى لا يُصَدَّ أحدٌ أو يُمنع عن الدخول في دين الله، وهذا لا يكون إلا بأن يكون الإنسان مختاراً في البقاء على دينه، أو التحول إلى دين الإسلام. وكيف تتأتى الحرية في الاختيار في ظل حكومة كافرة مشركة ترى في التمسك بالكفر والبقاء عليه حماية لها ولمصالحها ولمكانتها؟ ومن هنا يتبين أن من مقاصد الجهاد في سبيل الله ـ تعالى ـ منع تحكم الرؤساء والكبراء في العامة؛ بحيث يجبرونهم أو يكرهونهم على الكفر {وَإذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ} [غافر: 47]، وأيضاً {وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ} [الأحزاب: 67]، ولا يتأتى ذلك إلا بمنع الكفار من تولي القيادة والإمرة في أرض الله، وتمكين المسلمين في الأرض كلها فلا يدعــون أحـداً يُكره الناس على الكفـر، وهـذا لا يعد تدخلاً في حريات الناس واختياراتهم؛ لأن ذلك تشريع من رب الناس الذي خلقهم ورزقهم، وليس من تشريعات البشر؛ فهو ـ سبحانه وتعالى ـ وحده الذي ينبغي أن يحكم فيهم بشرعه، وما على الخلق غير الطاعة، ولو عصى الكفار ربهم فلا يكون كفر الكافرين وتمردهم على ربهم مسوغاً للمؤمنين الطائعين أن يتركوا ما أمرهم ربهم به من عدم تمكين الكافرين من الحكم في خلق الله؛ وذلك أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، وفعل المسلمون من ذلك ما قدروا عليه وما وسعته طاقتهم، وقد وجد من الكفار من يقبل ذلك، لكن علامة هذا القبول أن يدخل الكفار في ذمة المسلمين: بأن تجري عليهم أحكام الإسلام، فيقروا بدفع الجزية عن يدٍ دلالةً على الخضوع لأحكام الشريعة، وإيذاناً بانتقال الحكم بين الناس إلى شرع الله العلي الكبير؛ ولذلك جاءت وصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأمراء الجند: «وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال؛ فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكُف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام؛ فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين؛ فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم»(1). وقال المغيرة بن شعبة لعامل كسرى عندما خرج المسلمون لقتال الفرس زمن عمر بن الخطاب ـ رضي الله تعالى عنه ـ: «فأمرنا نبينا رسول ربنا -صلى الله عليه وسلم- أن نقاتلكم، حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية»(2). وإذا بقي الكفار على دينهم لكن قبلوا بخضوعهم لحكم الإسلام، ودفع الجزية صارت دارهم بخضوعها لحكم الإسلام دار إسلام، فإن رفضوا صاروا محاربين، وإزاء إيمان المؤمنين، وكفر الكافرين وامتناعهم من الدخول في حكم الإسلام انقسمت البلدان إلى دارين: دار يأرز إليه الإيمان، وهي دار الإسلام التي تظهر فيها شرائعه وأعلامه، ويحكم فيها بشرع الله. ودار للكفر وهي التي تغلب فيها شرائع الكفر، ويحكم فيها بحكم الطاغوت. وقد كانت العلاقة بين دار الإسلام ودار الحرب ذات شقين: فمن جانب المسلمين كانت علاقة الدعوة إلى دين الله والقتال من جانب المسلمين؛ لمنع تسلط الكافرين على خلق الله. ومن جانب الكفار الحربيين كانت علاقة القتال للصد عن سبيل الله، والسعي في إطفاء نور الله، غير أن هذه العلاقة قد تتخللها في بعض الفترات الزمنية حالات، وأوضاع يحتاج فيها المسلمون إلى الصلح أو الهدنة، إما لأسباب تعود إلى المسلمين: (كضعف أو استعداد وتقوية ونحو ذلك)، وإما لأسباب تعود إلى الكافرين: (كحُسن ظن في المسلمين، وقرب هداية، ونحو ذلك) والصلح فيه تفصيلات كثيرة، لكن يضبط هذه التفصيلات أمران لا بد من تحققهما:
الأول: أن يكون الصلح مما يوافق أحكام الشريعة في أصله وتفصيلاته، فلا يشتمل في أصله أو تفاصيله على ما يضاد أو يناقض الأحكام الشرعية.
الثاني: أن يكون مبناه على ارتياد ما هو في مصلحة الإسلام والمسلمين؛ فالصلح الذي يجلب على المسلمين الضرر، سواء في دينهم أو دنياهم، وكذلك الصلح الذي لا يجلب نفعاً، هو صلح لم يقم على قاعدة ارتياد الأصلح، وكل عهد أو صلح بين المسلمين وبين الكفار لم يحقق هذين الأمرين، أو أحدهما فهو صلح لا يعتد به شرعاً، وهو صلح باطل؛ لأنه أسس على غير التقوى.
ومن هذا العموم الذي تقدم ننتقل إلى التفاصيل: تعريف الصلح: يراد بالصلح بين المسلمين وبين الكافرين الحربيين: هدنة أو موادعة أو معاهدة يتفق عليها الطرفان؛ لتحقيق بعض المصالح التي يهدف إليها كل طرف من وراء المعاهدة، ومن شروط هذه الهدنة أو الموادعة أو المصالحة أو المعاهدة المعتبرة شرعاً ما يلي:
أن تكون على النظر لصالح المسلمين كأن تنزل بهم نازلة، أو أن المسلمين يرجون إسلام المشركين، أو أن المشركين يقبلون بإعطاء الجزية بلا مؤونة. أما الهدنة التي لا تكون على النظر لصالح المسلمين، بل يتحقق من خلالها مصالح المشركين: كرواج تجارتهم وتصدير سلعهم، ومنتجاتهم الصناعية، وغيرها إلى بلاد المسلمين، أو حصولهم على المواد الخام من بلاد المسلمين بأسعار رخيصة. أو كان يترتب على ذلك تدخل الكفار في ثقافة الشعوب الإسلامية، والتأثير في مناهج التعليم فيغيرون منها، أو يحذفون ما فيها من النصوص الشرعية التي تتحدث عن الأحكام التي ينبغي أن تكون بين المسلمين والكافرين (أحكام الموالاة والمعاداة)؛ فإن هذا الصلح لم يقم على قاعدة ابتغاء مصلحة المسلمين، وإنما قام على ضرر المسلمين، ومن القواعد المقررة في فقه السياسة الشرعية أن تصرّف الإمام منوط بالمصلحة؛ فما لم يكن فيه مصلحة بل مفسدة فهو تصرف باطل؛ لأن الشرع لا يأمر بالفساد، قال الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ: «وإذا سأل قوم من المشركين مهادنةً، فللإمام مهادنتهم على النظر للمسلمين، رجاء أن يسلموا أو يعطوا الجزية بلا مؤونة، وليس له مهادنتهم إذا لم يكن في ذلك نظر»(1)، وقال: «وإن صالحهم الإمام على ما لا يجوز فالطاعة نقضه»(2)، وقال الماوردي الشافعي: «وإذا لم تَدْعُ إلى عقد المهادنة ضرورة لم يجز أن يهادنهم»(3)، وقال ابن العربي المالكي: «إذا كان المسلمون على عِزَّة، وفي قوة ومنعة، ومقانب(ü) عديدة، وعدّة شديدة: فلا صلح حتى تُطعن الخيلُ بالقنا، وتُضرب بالبيض الرقاقِ الجماجمُ، وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح لانتفاع يُجلب به، أو ضر يندفع بسـببه؛ فلا بأس أن يبتدئ المسلمون به إذا احتاجوا إليه، وأن يجيبوا إذا دُعوا إليه»(4)، وقال ابن قدامة الحنبلي: «ومعنى الهدنة: أن يعقد لأهل الحرب عقداً على ترك القتال مدة، بعوض وبغير عوض. وتسمى مهادنة وموادعة ومعاهدة، وذلك جائز، بدليل قول الله ـ تعالى ـ: {بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْـمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1]. وقال ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61]، ولأنه قد يكون بالمسلمين ضعف، فيهادنهم حتى يقوى المسلمون.
ولا يجوز ذلك إلا للنظر للمسلمين؛ إما أن يكون بهم ضعف عن قتالهم، وإما أن يطمع في إسلامهم بهدنتهم، أو في أدائهم الجزية، والتزامهم أحكام الملة، أو غير ذلك من المصالح»(5)، وقال صاحب الهداية الحنفي: «وإذا رأى الإمام أن يصالح أهل الحرب أو فريقاً منهــم، وكان فــي ذلك مصلحـة للمســلمين فلا بأس به لقوله ـ تعالى ـ: {وَإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61]، ووادع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهل مكة عام الحديبية، على أن يضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين؛ ولأن الموادعة جهادٌ معنًى إذا كان خيراً للمسلمين؛ لأن المقصود وهو دفع الشر حاصل به،... بخلاف ما إذا لم يكن خيراً؛ لأنه ترك الجهاد صورة ومعنى»(6)؛ فقيّد ذلك بكونه مصلحة للمسلمين، وجعل الموادعة إذا حققت الخير بمنزلة الجهاد من حيث المعنى، أما إذا كانت الموادعة لم تحقق الخير أو المصلحة كان ذلك تركاً للجهاد، وهذا لا مصلحة فيه، وقد بين الشيخ ابن باز ـ رحمه الله تعالى ـ أن الصلح إنما يكون «عند العجز عن قتال المشركين، والعجز عن إلزامهم بالجزية إذا كانوا من أهل الكتاب أو المجوس، أما مع القدرة على جهادهم وإلزامهم بالدخول في الإسلام أو القتل أو دفع الجزية ـ إن كانوا من أهلها ـ فلا تجوز المصالحة معهم وترك القتال وترك الجزية، وإنما تجوز المصالحة عند الحاجة أو الضرورة مع العجز عن قتالهم أو إلزامهم بالجزية إن كانوا من أهلها»(7).
ومن الشروط الفاسدة التي لا مصلحة فيها للمسلمين مصالحتهم على «إعطائهم شيئاً من سلاحنا أو من آلات الحرب» قال ابن قدامة بعدما ذكر هذه وأشياء أخرى: «فهذه كلها شروط فاسدة لا يجوز الوفاء بها»(8)، ويلحق بإعطاء السلاح أو آلات الحرب الموافقة على الامتناع من استخدام بعض أنواع السلاح في الوقت الذي يمتلك فيه الكفار هذا النوع من السلاح ولا يمتنعون عن استخدامه عند الحاجة إليه مثل ما يعرف في وقتنا الحاضر بأسلحة الدمار الشامل؛ فإنه لو تمت المصالحة أو المعاهدة على أن يمتنع المسلمون من تملُّك هذا النوع من الأسلحة أو صناعته، بينما الكفار لا يمتنعون عن تملكه وصناعته كان هذا من الشروط الفاسدة التي لا يحل الموافقة عليها، لأنه شرط يضعف المسلمين مقابل أعدائهم كما أنه يخالف الإعداد المأمور به في قوله ـ تعالى ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْـخَيْلِ} [الأنفال: 60]، فتكون نتيجة ذلك تجريد المسلمين من الأسلحة القوية التي يتحقق عن طريقها ردع العدو بإذن الله ـ تعالى ـ وتحقيق النصر.
ومن شروط الهدنة الصحيحة عدم مخالفة الشريعة أو معارضتها: وتحدث المخالفة بأن تؤسس المعاهدة في أصلها أو في تفاصيلها على ما يخالف الشريعة، وهذا قد يأخذ صورا ًمتعددة؛ فمن ذلك: التعاهد على أن يكون التصالح أبدياً؛ لأن التأبيد يتضمن التعاهد على ترك الجهاد في سبيل الله تعالى، وهو من فرائض الدين الثابتة بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، ولا يمكن أن تقبل الشريعة فكرة أن يتعاقد الناس ويتعاهدوا على تجاوز الأحكام الشرعية؛ فالغاية من الجهاد أمران:
الأول: نشر الإسلام في أرض الله، وإزالة تحكم الكفار في خلق الله، وهذا يُعرف بجهاد الطلب.
والثاني: الدفاع عن دار الإسلام ضد عدوان المعتدين من الكفار والمشركين وأضرابهم وهذا يُعرف بجهاد الدفع.
وقد أتفق أهل العلم على أنه لا يجوز أن تكون المعاهدة أبدية، وهم بعد اتفاقهم على عدم التأبيد على قولين في توقيت المعاهدة:
القول الأول: فالجمهور على أن المعاهدة ينبغي أن توقت بوقت، وأطول وقت يمكن اعتباره للمعاهدة هو عشر سنوات، وهي المدة التي صالح عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المشركين في مكة، وإن كان هناك من أهل العلم من يجعل المدة مرتبطة بالمصلحة؛ فقد تزيد عن ذلك، وقد تنقص بشرط ألا تكون أبدية.
والقول الثاني: بجواز أن تكون المعاهدة مطلقة؛ أي من غير تحديد فترة زمنية تنتهي عندها المعاهدة، بل تكون مطلقة عن قيْد الزمن، وأن من أراد نبذها فله ذلك بعد إعلام الطرف الثاني حتى لا يكون هناك غدر. وبعض أهل العلم يرفضون هذه الصورة من أجل خشيتهم أن يؤدي إطلاق المدة إلى تأبيد المعاهدة، وهذا التعاهد المؤبد يتضمن مفاسد أخرى؛ حيث يستروح المسلمون لتلك المعاهدة المؤبدة، فيقصرون في الاستعداد، حتى يصلوا إلى مستويات متدنية في القوة والتجهيزات، وحينئذ ينقض عليهم العدو الذين لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، وحينئذ لا ينفع الندم، ولا يفيد ما يقوله النادمون: يا ليتنا ويا ليتنا! ونحن هنا لا نتكلم من قبيل الفروض الذهنية، وإنما نتكلم من قِبَل إخبار من هو بكل شيء عليم، ومن يعلم ما تخفي الصدور؛ فقد نبأنا الله من أخبار المشركين والكفار أنهم: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران: 118]، وأنهم {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118]، وأنهم: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْـمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة: 105]، وعندنا مثال من الواقع القريب؛ فها هي أمريكا قد عَدَتْ على أفغانستان، ثم العراق من بعدها بلا مسوغ حقيقي إلا مسوغ قدرتها على شن الحرب من غير أن يتمكن أحد من الوقوف في وجهها أو معاقبتها، والمتتبع لقضية حرب أمريكا على العراق يتبين له أن أمريكا ظالمة في ذلك إلى أبعد حدود الظلم، ومع ذلك لم يتمكن العالم من منعها من عدوانها، ولا حتى الأمم المتحدة التي زعموا إنشاءها من أجل مثل هذه الأمور، بل رغم اعتراف الأمم المتحدة بعدم شرعية حرب أمريكا على العراق، ومع ذلك يستمر احتلالها للعراق، وعلى ذلك فما كان من المعاهدات يشترط فيه أن تكون معاهدة أبدية دائمة؛ فهذا شرط فاسد لا يجوز، وليس هذا تشوُّفاً إلى الحرب والقتال وحباً له أو رغبة فيه، بل التشوُّف إلى نشر الإسلام؛ لأن هذا أمانة ائتمن الله عليها الصالحين من عباده؛ فهو يقول لهم: بلغوا رسالتي للناس، وأقيموا عليهم الحجة؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ولا تقصروا في ذلك وابذلوا جهدكم وقاتلوا من يصد الناس عن الدين، أو من يحكم فيهم بغير ما شرع الله تعالى.
كما أن المسلم ليس من أهل الأثرة الذين لا يعتنون إلا بمصلحهم الشخصية فلا يهمهم هلاك العالم وضلالهم إذا كانوا هم من المهتدين، بل هم كما قال الله عنهم: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، فهم خير الناس للناس، يسعون في هدايتهم ويتحملون ما يصيبهم في سبيل ذلك من أذاهم. قال الشافعي ـ رحمه الله ـ: «أحب للإمام إذا نزلت بالمسلمين نازلة، وأرجو أن لا ينزلها الله ـ عز وجل ـ بهم إن شاء الله ـ تعالى ـ مهادنة يكون النظر لهم فيها، ولا يهادن إلا إلى مدة، ولا يجاوز بالمدة مدةً أهل الحديبية كانت النازلة ما كانت، فإن كانت بالمسلمين قوة قاتلوا المشركين بعد انقضاء المدة؛ فإن لم يَقْوَ الإمام فلا بأس أن يجدد مدة مثلها أو دونها، ولا يجاوزها من قِبَل أن القوة للمسلمين والضعف لعدوهم قد يحدث في أقل منها، وإن هادنهم إلى أكثر منها فمنتقضة؛ لأن أصل الفرض قتال المشركين حتى يؤمنوا، أو يعطوا الجزية؛ فإن الله ـ عز وجل ـ أذن بالهدنة؛ فقال ـ تعالى ـ: {إلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْـمُشْرِكِينَ} [التوبة: 4]، فلما لم يبلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمدة أكثر من مدة الحديبية لم يجز أن يهادن إلا على النظر للمسلمين، ولا تجاوز (قال): وليس للإمام أن يهادن القوم من المشركين على النظر إلى غير مدة، هدنةً مطلقةً؛ فإن الهدنة المطلقة على الأبد، وهي لا تجوز لما وصفت، ولكن يهادنهم على أن الخيار إليه، حتى إن شاء أن ينبذ إليهم؛ فإن رأى نظراً للمسلمين أن ينبذ فعل»(1).
وقال الماوردي في بيان أن أقصى مدة للهدنة عشر سنوات: «فإن هادنهم أكثر منها بطلت المهادنة فيما زاد عليها»(2)، وقال ابن قدامة عن الهدنة: «لا تجوز إلا مقيدة؛ لأن في جوازها مطلقاً تركاً للجهاد»(3)، وقال: «ولا يجوز عقد الهدنة إلا على مدة مقدرة معلومة؛ لما ذكرناه. قال القاضي: وظاهر كلام أحمد، أنها لا تجوز أكثر من عشر سنين. وهو اختيار أبي بكر، ومذهب الشافعي؛ لأن قوله ـ تعالى ـ: {فَاقْتُلُوا الْـمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5]. عامٌّ خص منه مدة العشر لمصالحة النبي -صلى الله عليه وسلم- قريشاً يوم الحديبية عشراً؛ ففيما زاد يبقى على مقتضى العموم»(1)، وليس المقصود هنا مناقشة كم المدة الجائزة أو أقصى مدى لها؛ إذ القصــد بيان أن الصلح المؤبد لا يصلح؛ لأنه أولاً: يفضي إلى إبطال الجهاد، وهذا فيه تغيير للشريعة، وثانياً: فإن الكفار لا يحافظون عليه، بل سينقضونه؛ لأنهم ليسوا من {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8]، بل ينبغي توقيته بوقت زمني، حتى لا يتعطل الجهاد الذي مضمونه رحمة الله بالعباد في تيسير سبل الهداية لهم، كما قال الله ـ تعالى ـ عن رسوله -صلى الله عليه وسلم-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، ومن شروط الهدنة الصحيحة عدم جواز إقرار الكافر على ما غلب عليه من دار الإسلام؛ بحيث يُعترف له بأحقيته في تملك تلك الأرض وفي حكمها بما يخالف حكم الله وشرعه، وإقامة العلاقات المتنوعة معه، وهذا مما لا شك في مخالفته لدين المسلمين؛ فإن أهل العلم من جميع المذاهب قد اتفقت كلمتهم على أن الكفار، إذا نزلوا بدار المسلمين فقد وجب جهادهم، وتعين على أهل هذه البقعة فإذا لم تكن لديهم القدرة على صدهم وإخراجهم من دار الإسلام؛ فإن الوجوب يظل يشمل قطاعات من البلدان المجاورة، حتى تتحقق بهم الكفاية في دفع الكفار، ولو لم تتيسر الكفاية إلا بقيام المسلمين جميعهم بذلك لتعيُّن الجهاد على الأمة بأسرها.
قال البابرتي: «إن هجم العدو على بلد وجب على جميع الناس الدفع: تخرج المرأة بغير إذن زوجها، والعبد بغير إذن المولى، لأنه صار فرض عين»(2)، وقال ابن قدامة: «ويتعين الجهاد في ثلاثة مواضع... الثاني: إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم»(3)، وقال ابن تيمية: «وإذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب؛ إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة، وأنه يجب النفير إليه بلا إذن والد ولا غريم، ونصوص أحمد صريحة بهذا وهو خير مما في المختصرات. لكن هل يجب على جميع أهل المكان النفير إذا نفر إليه الكفاية؟ كلام أحمد فيه مختلف، وقتال الدفع مثل أن يكون العدو كثيراً لا طاقة للمسلمين به، لكن يُخاف إن انصرفوا عن عدوهم عطف العدو على من يخلِّفون من المسلمين، فهنا قد صرح أصحابنا بأنه يجب أن يبذلوا مهجهم ومهج من يُخاف عليهم في الدفع حتى يَسْلَمُوا، ونظيرها أن يهجم العدو على بلاد المسلمين، وتكون المقاتلة أقل من النصف؛ فإن انصرفوا استولوا على الحريم؛ فهذا وأمثاله قتال دفع لا قتال طلب، لا يجوز الانصراف فيه بحال، ووقعة أحد من هذا الباب، والواجب أن يعتبر في أمور الجهاد (برأي) أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا دون (أهل) الدين الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين فلا يؤخذ برأيهم ولا (برأي) أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا، والرباط أفضل من المقام بمكة إجماعاً»(4).
فإذا كانت النفوس تبذل في سبيل دفع الكفار عن أرض الإسلام وعن حريمهم وعن عيالهم؛ فلا يمكن أن يُقبل شرعاً صلح على شرط التنازل عن بعض أو جزء من دار الإسلام وتسليمها للكفار والتسليم لهم بحكمها، في مقابل حصول المسلمين على جزء آخر منها، وعلى ذلك فلا يصح مقايضة أرض الإسلام بشيء، فدار الإسلام ليست ملكاً لأحدنا حتى يمكنه التنازل عنها، وإنما هي لله ـ سبحانه ـ وهو يحكم فيها بما شاء، وقد قضى ـ سبحانه ـ أن الأرض للمسلمين، كما قال: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِـحُونَ} [الأنبياء: 105]، والصالحون هم المسلمون، فإذا كانت المصالحة أو المعاهدة ليست على النظر لصالح المسلمين (على النحو الذي تقدم ذكره) أو كان الصلح مؤبداً (ما يعني تعطيل الجهاد)، أو كان بقبول التنازل عن جزء من دار الإسلام لصالح الكفار، والاعتراف بسلطانهم الدائم عليها وإقامة العلاقات الدائمة معهم (ما يعني الإقرار والقبول بأن تتحول بقعة من دار الإسلام إلى دار كفر)، فإن ذلك الصلح ليس بصلح مشروع، بل هو تضييع وتفريط، وهذا هو التطبيع المعروض الآن على المسلمين من اليهود الذين اغتصبوا أرض فلسطين، واحتلوها أكثر من نصف قرن من الزمان: أن يسالمهم المسلمون، ويقروهم على ما اغتصبوه من أرض المسلمين، ويعترفوا لهم بأحقيتهم في الاستيلاء عليه وتملكه وحكمه، وأن يقيموا معهم العلاقات المتنوعة: السياسية، والاقتصادية، والثقافية، وأن يزيلوا من مناهجهم الدراسية كل ما يتعارض مع هذا التطبيع، ولا شكك أن هذا من الهوان الذي نُهينا عنه. قال الله ـ تعالى ـ: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ} [محمد: 35]، ولا يسوغ الاحتجاج على جواز ذلك بقوله ـ تعالى ـ: {وَإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61]، أو بمصالحة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لمشركي قريش في صلح الحديبية، أو غيرها من معاهدات الصلح مع أهل الكتاب؛ لأن المنازعة ليست في جواز الصلح عند الاحتياج إليه ووجود دواعيه؛ فإن ذلك مما لا ينازع فيه أحد من أهل العلم المعتبرين، وإنما الكلام في الشروط المرتبطة به والنتائج المترتبة عليه، فلا ينبغي الدعوة إلى المصالحة أو قبولها على خلاف أحكام الشرع؛ لأن ذلك من ظن السوء بالله ـ تعالى ـ وهو من تصرفات أهل الجاهلية والشرك وليس من تصرفات المسلمين الذين يحسنون ظنهم في ربهم ودينهم، وأن الله ناصرهم ومؤيدهم إذا اعتصموا به واتبعوا شريعته، قال الله ـ تعالى ـ: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْـحَقِّ ظَنَّ الْـجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154]، وقال: {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح: 12]، وإذا كان بالمسلمين ضعف فالحل لا يكمن في معصية الله، ومخالفة أمره، والركون إلى الكفار والاعتصام بهم والتودد إليهم والمسارعة فيهم؛ فإن ذلك لا يزيدهم إلا ضعفا على ضعف، وقد عدَّ الله المسارعة في الكفار بزعم الضعف من علامات مرض القلب، فقال ـ تعالى ـ: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة: 52]. فإذا كان بالمسلمين ضعف فلا يجوز الركون إليه والاستسلام له والتعويل عليه، بل عليهم السعي إلى الأخذ بإزالة أسباب ضعفهم؛ لأن الاستسلام له حكم بالموت على المسلمين في واقع الحياة، والقدرة على التأثير فيها، وسيظل المسلمون رهينة لهذا الضعف، كل يوم يُنتقَص شيء من دينهم، وشيء من أراضيهم وممتلكاتهم، ثم يُسوَّغ ذلك بالحجة نفسها حجة الضعف.
والذي يستقيم مع أحكام الشريعة في ظل الظروف التي تحياها الأمة الإسلامية أنه يجوز المصالحة أو المعاهدة على وضع الحرب عشر سنوات أو أكثر أو أقل حسب ما يُرى من تحقيق المصلحة في ذلك، من غير التسليم بأحقية الكفار في الاستيلاء على ما غلبوا عليه من دار الإسلام، ويقوم ولاة أمور المسلمين بالأخذ بأسباب القوة من التمسك بالشريعة الإسلامية وتحكيمها بمعناها الشامل الكامل (لا بمعنى الاقتصار على جزء منها كالعبادات، أو إقامة بعض الحدود)، ومن العناية بتحصيل أسباب القوة المادية، سواء بالشراء أو التصنيع امتثالاً لقوله ـ تعالى ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْـخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]، وتشجيع البحث العلمي، ورصد المكافآت له وإقامة مراكز الأبحاث والعناية بها، وليس ببعيد على المسلمين مع توفيق الله لهم أن يتمكنوا من تحصيل أسباب القوة في فترة عشر سنوات، إذا جدوا واجتهدوا، تمكنهم من استرداد حقوقهم المسلوبة، أو تمكنهم من إقامة صلح من مركز قوة تراعي فيه الشروط الشرعية المتقدمة؛ بدلاً من الهرولة والمسارعة إلى صلح ليس لهم منه إلا الاسم الأجوف، بينما الحقيقة خضوع واستسلام في ظل الهوان.
|