الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد: فإن المرء على دين خليله، والمرء يُعرف من صديقه، لأن الأشباه تجتمع وتتقارب، والطيور على أشكالها تقع، ولا أنفع للإنسان ولا أضر عليه من البيئة والصحبة، ولذلك أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تصاحب إلا مؤمنًا ولا يأكل طعامك إلا تقي". وأخرج مسلم في صحيحه، قصة رجل من الأمم السابقة قتل تسعًا وتسعين نفسًا، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض- بغية التوبة- فدلوه على عابد، فأتاه وأخبره أنه قتل تسعًا وتسعين نفسًا فهل له من توبة؟ فقال له: ليست لك توبة فقتله فأكمل به المائة- لكن الشعور بالذنب والندم على فعله والخوف من الله والإنابة إليه والحنين إلى التوبة، كل ذلك تحرك في قلبه، وجاشت في صدره العودة والرجوع إلى الله خوفًا من عذابه وطمعًا في جنته، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدلوه على عالم، فأتاه وأخبره أنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة، فقال له: نعم ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ولكنك في أرض سوء يُعبد فيها غير الله، فاذهب إلى أرض كذا وكذا، فإن فيها قومًا يعبدون الله فاعبد الله معهم، فحمل متاعه وخرج من قريته وبينا هو في منتصف الطريق أتاه ملك الموت فقبض روحه، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، قالت ملائكة الرحمة: إنه رجع إلى الله تائبًا، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل حسنة قط، فأرسل الله إليهم ملكًا ليُحَكِّموه بينهم، فقال لهم: قيسوا ما بين القريتين فإلى أيتهما كان أقرب فخذوه إليها، فأوحى الله عز وجل إلى الأرض الطيبة أن تقاربي، وإلى الأرض الخبيثة أن تباعدي، فلما قاسوا ما بين القريتين وجدوه إلى الأرض الطيبة أقرب فأخذته ملائكة الرحمة إلى الجنة. إنها قصة عظيمة النفع، أرشد فيها هذا العالمُ الرجل التائب إلى عدة أمور من أهمها: 1- تغيير البيئة بالانتقال من أرض السوء إلى الأرض الطيبة. 2- تغيير الصحبة السيئة إلى صحبة طيبة تعين على طاعة الله. فالإيمان يزيد في البيئة النقية، وفي جوار الصالحين والمتقين، ولذلك كان من دعاء سليمان عليه السلام: "وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين". وكل فساد وبلاءٍ وانحراف إنما ينشأ من أعوان الشيطان وجنوده من الأنس الذين يفتحون على العبد أبواب الغفلة والشهوات ولا يعينون على فعل الطيبات والصالحات، وكم من عبد قد احتوشه قرناء السوء وأصحاب الشهوات، فزينوا له الباطل وأَعْمَوْا بصره وبصيرته عن رؤية الحق ومشاهدة مواطن الخير والفضل، وثبطوا همته عن التشمير عن ساعد الجد ومواصلة السير في طريق الجنة وسبل الخير، ولقد نهانا ربنا عن مصاحبة الأشرار، وبين أنهم يوم القيامة سيتبرأ بعضهم من بعض وسيلعن بعضهم بعضًا، وسيتهم كل منهم الآخر أنه كان وراء ضلاله وإفساده قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون (38) وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون. أما المؤمنون الصادقون فقد نزع الله من صدورهم الغل وجعلهم إخوانًا على سرر متقابلين في جنات النعيم: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين (67) يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون (68) الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين. ولقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى من تجب مصاحبته وملازمته، وذكر سمات الجليس الصالح والجليس السوء، فقال: "مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل صاحب المسك وكير الحداد: لا يعدمك من صاحب المسك إما تشتريه أو تجد ريحه وكير الحداد يحرق بيتك أو ثوبك أو تجد منه ريحًا خبيثة". {البخاري: 2049}. فالصاحب الصالح هو المطيع لربه المستقيم على أمره، الأمين على دينه، العاقل الذي يقهر هواه، فلا خير في مصاحبة الأحمق السفيه الخائن الفاجر، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أمارات النفاق وحذر أمته من شعبه بقوله: "أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر". متفق عليه. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "عليك بإخوان الصدق فإنهم زينة في الرخاء وعدة في البلاء، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجيئك ما يقلبك منه، واعتزل عدوك، ولا تصاحب الفاجر فتتعلم من فجوره، ولا تطلعه على سرك، واستشر في أمورك الذين يخشون الله تعالى...". فلا بد من صحبة الأخيار والعيش معهم، فإن العبد وحده ضعيف أمام الأوامر والتكاليف، ولذلك فإن الجماعة رحمة وعون على الطاعة والاستقامة، والفرقة عذاب وشؤم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : "عليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية"، وذلك يتأكد بالحث الدائم على صلاة الجماعة في المسجد حيث تذوب الفوارق وسط الجماعة بين المؤمنين، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "من سره أن يلقى الله تعالى غدًا مؤمنًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن فإنهن من سنن الهدى، وإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يُهادى بين الرجلين حتى يُقام في الصف". فالمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، والشيطان يفترس العبد إذا كان وحده وهو عليه أشد بصحبة السوء وأعوان الشر، ومن ثَمَّ فعلى العاقل أن يتخير أقرب الناس إليه والملتصقين به، فإنه يُعرف بهم، ومن أحب قومًا حُشر معهم، ومن تشبه بقوم فهو منهم، ومن أدخل نفسه مدخلاً يتهمه الناس فيه فلا يلومن إلا نفسه، فقد سبق بذلك الإنذار والوعيد والأمر والنهي. إن صحبة السوء عدوٌ مبين، وبطانة خبيثة، وجنود حاضرة للشيطان أينما يوجهها تسير وتعمل، ولذلك فلا خير إلا في صحبة المؤمن، والمؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأعراضهم، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده. والله من وراء القصد.
|