بعد أن تبين لنا خطورة لبس الحق بالباطل من خلال الصور التي أوردناها في السابق، وما ينتج عنها من الضلال والانحــراف الذي يورث العواقب الوخيمة في الدنيا والآخرة، بعد ذلك: يـحق لنا ـ بل يجب علـيـنـا ـ أن نـســأل: كـيـف النجاة من ذلك الخطر؟ وما هي الأسباب الواقية منه؟ وللإجابة على ذلك: نستعرض أسباب التباس الحق بالباطل؛ فمنها ينطلق العلاج، وبضدها تتميز الأشياء. فقد مر بنا أن تلك الأسباب لا تخرج عن ثلاثة أمور: 1- شبهة تسببت في أخذ الباطل على أنه الحق، وأصل هذا: الجهل. 2- شهوة تسببت في أخذ الباطل وترك الحق عن شهوة وضعف واعتراف بالخطأ. 3- شهوة وشبهة نتج عنهما أخذ الباطل وإظهاره في صورة حق عن هوى ومغالطة استناداً إلى شبهة يعلم صاحبها أنها لا تصلح للاستدلال. وبعد هذه المقدمة التي لابد منها بين يدي الأسباب الواقية من اللبس والتلبيس. يمكن تفصيل وبيان الأسباب الواقية من لبس الحق بالباطل فيما يلي: 1- علم وبصيرة بدين الله (عز وجل) وشرعه، وعلم وبصيرة بما يضاد دين الله (سبحانه) وشرعه؛ فإذا تحقق هذا الأمر: فإن الاستبانة لسبيل الـمـؤمـنـيـن وسـبـيـــل المجرمين قد تحققت، وبهذا: فلا مجال للشبهة هنا أبداً؛ لانتفاء الجهل الذي منه تـنـتـج الـشـبـهات الـمـؤديــــــة إلى اللبس والتلبيس، وفي هذا يقول الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى): فتنة الشبهات تُدفــع بالـيقـيـــن، وفتنة الشهوات تُدفعُ بالصبر، ولذلك جعل (سبحانه) إمامة الدّين مَنوطةً بهذين الأمريـــن، فقال: ((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)) [ الـسـجــدة: 24]، فدلّ على أنه بالصبر واليقين تُنالُ الإمامة في الدين، وجمع بينهما أيضاً في قولـه: ((إلاَّ الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) [العصر: 3]، فـتـواصـــوا بالحق الذي يَدْفَعُ الشبهات، وبالصبر الذي يَكُفّ عن الشهوات(1). 2- الصبر وتقوى الله (عز وجل): فبالصبر وتقوى الله (سبحانه) تدفـــع الشهوة وينتصر الإنسان على هواه؛ لأنه قد يحصل للإنسان البصيرة والعلم بدين الله (عــز وجـل)، ويتبين له الحق من الباطل، ولكن إذا لم يكن لديه الصبر عن شهوات النفس، والـتـقــوى التي تحجزه عن مخالفة الصواب: فإنه يضعف ويقع في المخالفة مع علمه بذلك، أمـــا إذا اجـتـمــــع العلم والبصيرة مع التقوى والديانة فإنه إذا بان الحق ولاح: لم يكن أمام من هذه صـفـتــه إلا الإذعــــــان والتسليم والانقياد، وذلك لانتفاء الشبهة والشهوة في حقه، وإلى هذا أشار ابن القيم في النقل السابق بقوله: إن فتنة الشبهات تدفع باليقين، وفتنة الشهوات تدفع بالصبر ولكن إذا ضـعــــف الصـبر والتقوى، ووجدت الغفلة عن الآخرة، وتنوسِيَ الوقوف بين يدي الله (عز وجل)، وصاحـب ذلك شيطان يزين، ودنيا تتعرض بفتنها: فالغالب عدم السلامة. ولكن المخالف للحق هـنــا: إمـــا أن يـكـون لديه بقية تقوى وخوف من الله (عز وجل) فيعترف بذنبه، ويستغفر منه ويتوب، أو يكـــون (عياذاً بالله) قد رقّ دينه وسيطر عليه هواه فأخذ يلتمس مبرراً لباطله، ويبحث هنا وهـنـــــاك عن شبهة يظهر بها باطله ومخالفته في قالب الحق والموافقة لدين الله، وهذا هو الـخـــداع والتلبيس، ولا علاج له إلا بتقوى الله (سبحانه)، واليقين بالرجوع إليه. نعم.. إنه لا يمنع من الوقوع في الـبـاطـــل بعد العلم والبصيرة، ولا يمنع من تلبيسه على الناس إلا الإيمان باليوم الآخر إيماناً جازماً ويقيناً صادقاً، وإن لم يتذكر العبد هذا اليوم ويحسب له حسابه: فلن يفيده في ذلك الـعـلم والبصيرة؛ فكم من عالم بالحق تنكب عنه وخالفه، أما إذا انضم إلى العلم والبصيرة: الـصـبــر والـتقـوى والخوف من الحساب يوم القيامة، فإن الشهوة ستنقمع وإن الهوى سيُغلب، وعندها: يخـتـفــي الـلـبـس والتلبيس والخداع والمغالطة في دين الله (عز وجل)؛ يقول الإمام ابن القيم (رحمه الله) ـ في معرض رده على المحتالين على شرع الله بالحيل الباطلة ـ: فحقيق بمن اتقى الله وخاف نكَاله أن يحذر استحلال محارم الله بأنواع المكر والاحتيال، وأن يعلم أنه لا يخلصه من الله ما أظهره مكراً وخديعة من الأقوال والأفعال. (2). ويقــول سيد قطب (رحمه الله) ـ في ظلال قوله (تعالى): ((وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)) [الأعراف: 169] ـ: نـعــم.. إنها الدار الآخرة! إن وزنها في قلوب الذين يتقون هو وحده الذي يرجح الكفة، وهو وحده الذي يعصم من فتنة العَرَض الأدنى القريب في هذه الدنيا.. نعم، إنها هي التي لا يصـلـح قـلــب ولا تصـلـح حـيـاة إلا بـهـــــــا؛ ولا تستقـيـم نفس ولا تستقيم حياة إلا بملاحظتها(3). أسباب أخرى مساعدة: وبعـد ذكـر السببين الـرئيسين للوقاية من اللبس والتلبيس، وهما: البصيرة في الدين الذي تدفــــــع به الـشـبـهـة، والصبر والتقوى اللذان تدفع بهما الشهوة: نذكر فيما يلي بعض الأسباب المساعدة لتثبيت السببين السابقين: 3- محاسبة النفس ومجاهدتها وتحصينها بالذكر والدعاء والعمل الصالح: حيث لابد للمسلم من محــاسـبــة دائمة للنفس، ومجاهدة لها في تطويعها لشرع الله (عز وجل) والحذر من الشيطان الذي لا يفتأ يوسوس ويزين لها الباطل، فإن لم يتفقد كل منا نفسه، ويسد على الشيطان مداخـلــه المتعددة؛ فإن النفس تكون على خطر أن تنساق مع شهواتها وهواها، فيحصل من جراء ذلك:اللبس والتلبيس والتضليل والمغالطة، إما بعلم أو بجهل، وإن مما يؤكد أهمية المحاسبة الدائمة واليقظة الشديدة للنفس ما يحصل من كثير منا في يومه أو غده من المغالطات والـمعاذير الكاذبة والتبريرات الغامضة، سواء أكان ذلك مع النفس أو مع الناس، ولكنها تكثر وتقل حسب التقوى وقوتها أو ضعفها في القلب، مع أنه يوجد من الدعاة والمصلحين نماذج فـريـــــدة في إخلاصها وصدقها وبعدها عن المداهنة والمغالطة والتلبيس، نسأل الله لهم الثبات، ونـسـألـه (سبحانه) للجميع الصدق في المقاصد والأقوال والأعمال. ومــن الأسـبـاب القـويــة التي يُتحصن بها من الشيطان ووساوسه: ذكر الله (عز وجل) في أحوال اليوم والليلة؛ فكلما كان اللسان رطباً بذكر الله (تعالى) والقلب يواطؤه في ذلك: كلما كان الشيطان بعيداً ولا يستطيع اقتحام الحصن؛ لأن ذكر الله (سبحانه) يحرقه ويمنعه من الدخول، ولكن ما إن يغفل العبد عن ذكر الله (تعالى) حتى يكر مرة أخرى للوسوسة، فهذا دأب الشيطان في كره وفره على القلب، فكلما ذكر العبد ربه خنس وإذا غفل وسوس. ومن الأسباب الواقية مــــن التـبــاس الحــق بالباطل: مجاهدة النفس في عمل الصالحات والإكثار منها من غير إفراط ولا تفريط، كما جاء في الحديث القدسي الذي منه: وما تقرب إليّ عبدي بأحب مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الــذي يـبـصــر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها.. الحديث(4) فمن كان يسمع ويبصر ويمشي ويبطش بنور الله وهداه: فإنه لن يخطئ أبداً؛ قال (تعالى): ((وَالَّذِِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَـنـَـهْـدِيـَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ الـمُحْسِنِينَ)) [العنكبوت: 69] وبالضد من ذلك فإن كثرة الذنوب من أسـبـاب الـضـــلال والـزيغ؛ قال (تعالى): ((...فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ...)) [الصف: 5] 4- مصاحبة أهل العلم والورع: إن الجـلــيس يتأثر بجليسه وصاحبه، سواءً أكان ذلك في الخير أو الشر، وذلك عن طريق المؤانسة والـمـشـابهة والقدوة، وعليه: فإن من الأسباب المانعة من الانحراف ولبس الحق بالباطل: الجلوس مع أهل العلم والتقوى ومصاحبتهم ومشاورتهم، لأنه بالعلم الذي عندهم تحترق الشبهات، وبالتقــــوى والورع لديهم تحترق الشهوات، وبذلك يُسد على الشيطان البابان الرئيسان اللذان يدخـــــــل منهما ليلبس على النفس ويزين لها التلبيس، والعكس بالعكس: ما إن يصاحب المرء أهــل الجهل والجدال ومن لم يؤتوا حظّاً من التقوى والورع إلا ويتأثر بهم وينطبع بأخلاقهم وتـشـتـبــه عليه الأمور لضعف العلم والبصيرة، أو يتعمد ترك الحق وتعميته على الناس لضعف التقوى والصبر عن الشهوات، وقد روي عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قوله: لولا ثلاث لـمـــا أحببت البقاء: لولا أن أحمل على جياد الخيل في سبيل الله، ومكابدة الليل، ومجالسة أقـــــوام ينتقــون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر . ولعل مما يدخل في هذا السبب: الإكثار من قراءة أخبار أهل العلم والتقوى والجهاد من أنبياء الله الكرام وصحبهم الأجلاء والتابعين لهم بإحسان؛ ففيهم الأسوة والقدوة والخير كله. 5- الحذر من الدنيا، وعدم الركون إليها: إن مــــن أعظم أسباب الانحراف عن الحق والوقوع في الانحراف والمخالفات: هذه الدنيا الغرارة؛ فكلما انفتحت على العبد كثرت شبهاتها وانساق مع شهواتها المختلفة، وعندما يرد ذكر الدنيا فإنه يقصد بها كل ما أشغل عن الآخرة من متعها المختلفة التي أجملها الله (عز وجل) في قوله (سبحانه) ((قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْـتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَاًتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ)) [التوبة: 24]. والانغماس في الدنيا وترفها وملذاتها ينتج عنه: غفلة عن الآخرة، وتشتت للذهن والقلب، وإعمال الفكر في الاستزادة منها، والخوف على فواتها.. وهذا يؤدي إلى قسوة القلب ورقة الدين، ومن هنا: تبدأ النفس في الاستجابة لتزيين الشيطان، وتثور الشبهات والشهوات في القلب، والذي ينشأ منهما: الكذب، والتدليس، والتلبيس، والطمع، والجشع.. وبخاصة في مثل عـصــرنــا الذي نعيش فيه، والذي كثرت فيه المعاملات المحرمة والشبهات، ولا عاصم من أمــــر الله إلا مــن رحــــم، ولذا: كان الأولى لمن أراد لنفسه السلامة من الدنيا وشبهاتها وشهواتها: أن يتخفف منها قدر الاستطاعة وأن يرضى منها بالقليل؛ لأن هناك تناسب طردي ـ وخاصة في زماننا هـــــذا ـ بـيــن كـثــرة الدنيا وكثرة الوقوع في الشبهات والشهوات المؤديات إلى التدليس والتلبيس. 6- النصح للأمة والحذر من عاقبة التلبيس والتدليس عليها: إن الشعور بواجب النصح للأمة يقتضي من المسلم ـ وبخاصة الداعية إلى الله (عز وجل) ـ أن يـبـيـن الحق لأمته، ويعري الباطل ويكشفه لها، ولا يجعله ملتبساً عليها فتضل؛ لأن الــذي يرى أمته تُضلل ويُلَبّس عليها دينها فتعيش في عماية من أمرها، ثم يتركها ـ وهو يعلم الحق من الباطل ـ إن مَن هذا شأنه: يعتبر خائناً لله ورسوله وللمؤمنين، وإن الله (عز وجل) سائله يوم القيامة عن علمه: فيم عمل به؟، وهذا فيمن رأى التضليل والتلبيس فلم يُحذّر منه ولم يكشفه للناس، فكيف بمن باشر التلبيس والتضليل بنفسـه (عيـاذاً بالله)؟ إن هـذا ـ بلا شــك ـ أكثر خيانة من سابقه، وإن وزر وضلال من ضلله بتلبيسه هذا سيحمله فوق ظهره يوم القـيـامة من غير أن ينقص من أوزار من ضللهم شيء. والحاصل: أن شعور المسلم بإثم وعاقبة التلبيس أو السكوت عليه: من أقوى الأسباب المانعة من الوقوع فيه ـ إن كان في القلب حياة وخوف من الله (سبحانه) والدار الآخرة ـ، لأن من كان في قلبه المحبة الحقيقية لهذا الديــن وأهله: لا يمكن أن يرى التضليل والتلبيس من المفسدين المنافقين ثم يرضى لنفسه الـسـكـــوت والوقوف موقف المتفرج، بل لن يقر له قرار ويهدأ له بال حتى يساهم قدر استطاعته في إبانة سبيل المؤمنين وإسقاط اللافتات الزائفة عن سبيل المجرمين وتعرية باطلهم وخداعهم كما مر بنا في صور التلبيس، وعندها: تعرف الأمة من توالي ومن تعادي، وعندها: تتميز الصفــوف ويتميز المؤمن من المنافق، وكل هذا يحتاج إلى تضحيات باهظة، لكنها رخيصة في سـبـيــل الله (عز وجل) لأن نصر الله (جل وعلا) الموعود لا يتم بدونها. وبعد: فهذا ما يسره الله (عز وجل) في هذه العجالة حول هذا الموضوع المهم الذي يمس المسلم في عقيدته وأخلاقه ومجتمعه، ولا أزعم أنني أحطت بجوانبه كلها، ولكن حسبي إثارة هذا الـمـوضــــوع والتذكير به لعل فضيلة العلماء الكرام والإخوة الدعاة يكملون ما نقص منه، ويقوّمون ما اعوج منه. وأحب أن أنبه: أن ما ذكرته من صور التلبيس ذكرته على سبيل المثال لا عـلـى سبيل الحصر، فالصور كثيرة وكثيرة وبخاصة في زماننا هذا الذي قلّ فيه العلم والورع ونجم فيه الجهل والنفاق. وفي خاتمة هذه المقالات: أوصي نفسي الأمارة وأوصي إخواني المسلمين: بأن يتفقد كل منا نفسه، ويبحــث عن هذا المرض الخطير فيها فإذا وجدنا شيئاً من ذلك ـ وسنجد ـ فعلينا التوبة الصادقة من هذا المرض، ولنبادر بقطع جذوره قبل أن يستفحل، ولا نُسوّف في ذلك أبداً؛ لأن التسويف وطول الأمل من عمل الشيطان وتلبيسه. والله أعلم، وصلّ الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. الهوامش: 1- إغاثة اللهفان: جـ2، ص167. 2- إعلام الموقعين: جـ3، ص214. 3- في ظلال القرآن: جـ3، ص387. 4- البخاري: كتاب الرقائق، ح 6502.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد ( 89)، محرم 1416،يونيو 1995 .
|