بسم الله الرحمن الرحيم
الإخـــلاص روح الــعــبــادة
سـمـاحـة الـشـيـخ أحـمـد بـن حـمــد الـخـــلـيـلـي المـفـتي الـعـام لـسـلـطـنـة عـمـان
بسم الله الرحمن الرحيم
المـقـدمـة الحمد لله الذي نوّر بصائر عباده العارفين، وطهّر سرائر أوليائه المخلصين، أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأثني عليه، وأستغفره من جميع الذنوب وأتوب إليه، وأومن به وأتوكل عليه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة من سأل الإخلاص في القول والعمل، وطلب الخلاص في الدنيا وفي الآخرة، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله إلى خلقه بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، صلى الله وسلم تسليماً عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد
فيا أصحاب الفضيلة مشائخ المعهد(1) الكرام، أيها الأبناء الطلبة الأعزاء، أيها الإخوان الحضور جميعاً، إنها لفرصة سعيدة أن نلتقي في هذا المركز الإشعاعي، ولكن المحنة بقدر المنحة، ذلك لأنّ حديث الليلة عسير عليّ، فقد كنت أتمنى أن أسمعه من غيري، وأن أستفيد ما يستفيده الحريصون على تتبع هذا الأمر، واستقصاء هذا الموضوع، وإنني -وجلال الله سبحانه- لأجدني أقلّكم أهليّة في الحديث عن هذا الموضوع، الذي هو في حقيقته جوهر الإسلام، وسّر رسالات الله تبارك وتعالى التي بعث بها المرسلين، فماذا عسى أن أقول؟ وإن الواجب على من يتكلم في هذا الموضوع أن يكون قلبه يفيض إخلاصاً، وأن تكون مشاعره كلها تتدفق بدافعٍ من ركيزة الإخلاص في نفسه، فأسأل الله سبحانه وتعالى العون والتوفيق. لا ريب أن الإخلاص هو روح العبادات والعمل، ولئن كانت الجثث بدون أرواحها تكون هامدة متعفنة فاسدة، فإن العمل إن تجرد من الإخلاص كان نتناً قذراً بل كان أشد نتناً وأقبح مظهراً من الجثة التي تفقد الروح، ذلك لأن قيمة العمل إخلاصه.
تعريف الإخلاص والإخلاص في اللغة هو مصدر: أخلص؛ يخلص: بمعنى جعل الشيء خالصاً، وحقيقته الشرعية ليست بعيدة من حقيقته اللغوية، ومن أجل ذلك عرّفه من العلماء من عرّفه؛ بأنه (تصفية الأعمال من شوائب قُصِد بها غير وجه الله سبحانه وتعالى) أي من أن يقصد الإنسان بعمل من أعماله أي غرض من الأغراض الدنيوية.
الإخلاص عند الصوفية بل جاوز ذلك بعض الصوفية(1)؛ إلى جعل إخلاص العمل ألاّ يبتغي به صاحبه أجراً حتى في الآخرة؛ كما روي عن رُوَيم(2) -وهو أحد الصوفية- أنه قال: (الإخلاص ألا تبتغي بالعمل نفعاً في الدارين، ولا حظاً عند الـمَلَكين). ونحن لا نستطيع أن نتجاسر على مثل هذا القول، كيف؟ ونحن نرى الحض في كتاب الله سبحانه وتعالى على ابتغاء الدار الآخرة، فإن الله سبحانه وتعالى وعد خير خلقه أجمعين، وبشّره بحسن المآل في الدار الآخرة، حيث قال له: )وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى((الضحى4) ووصف من خلقه بأنهم يدعونه رغباً ورهباً، وهذا بطبيعة الحال يعني أن يتعلق العبد بالله تعالى خوفاً من عقابه، وطمعاً في ثوابه، وهذا لا ينافي أن يكون الإنسان معظماً لجلال الله تعالى بعبادته، ومستشعراً عظم نعمة الله تبارك وتعالى عليه، وأنه يريد بهذه العبادة شكر ما أنعم الله تعالى به، ولكن حظوظ الآخرة هي نعمة معروضة من قبل الله تبارك وتعالى على عباده المخلصين، فجدير إذاً بالإنسان أن يرغب فيما عند الله )وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى(. (القصص 60) على أن خير حظ يناله الإنسان في الآخرة هو رضوان الله عزّ وجل، كما يقول الله سبحانه وتعالى: )وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أكبَر(.(التوبة 72) وقال الجُنّيد(1): (الإخلاص سر بين العبد وربه، لا يطّلع عليه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا يناله هوى فيميله) ولعلّ هذا مأخوذ من بعض ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد رأيت القرطبي ذكر رواية عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم - ذكرها أبو القاسم القشيري؛ ولم يذكر القرطبي لها سنداً- وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((سألت جبريل عن الإخلاص)) فقال: ((سألت رب العزة والجلال عن الإخلاص)) فقال: ((هو سر من سري، أختص به من أحببت من عبادي)). ولعل المحقق الخليلي(2) يشير إلى ذلك عندما قال: بخلوةِ لي عبدٌ وسرّيَ بينه وبيني عن الأملاك والرسل كُتّما ومعنى ذلك؛ أن الإخلاص صلة ما بين العبد وربه، هذه الصلة لا يطّلع عليها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وإنما هي صلة بين العبد وربه، والله تبارك وتعالى يختصّ من يشاء بما يشاء.
الإخلاص روح الدين وقد جاء في كتاب الله تبارك وتعالى ما يدل على أن الإخلاص هو روح هذا الدين، ذلك لأن كتاب الله عزّ وجلّ جاء داعياً إلى ملة الإسلام، وهي استسلام العبد لله تبارك وتعالى، بأن يسلم العبد لربه عز وجل قلبه وعقله وجسمه وروحه وضميره وغرائزه، وقد عبّر الحق عز وجل عن ذلك بقوله: )وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصينَ لَهُ الدِّينَ((البينة59) وإن كان الضمير عائداً إلى أهل الكتاب؛ إلا في أنه حقيقته يشمل جميع الناس، إذ هذا أمر رباني لا يختص به أحد دون أحد. والله سبحانه يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: )قل إني أُمِرتُ أن أعبدَ اللهَ مُخِلصاً لَهُ الدِّينَ( (الزمر 11) ويقول الله تعالى: )قلِ اللهَ أعبدُ مُخلصاً له دِينِي( (الزمر 14) فإذاً الأمر بالإخلاص وجّه إلى خير خلق الله؛ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو أرقى الناس ذروة في الخير، ولا يطاوله أحد من عباد الله تعالى.
الإخلاص في العمل والعبادة فالإخلاص في العمل إنما هو حقيقة الإسلام وجوهره وسره، وذلك بألاّ يتعلّق العبد - عندما يعمل أي عمل- بأي غرض من أغراض الدنيا، وإنما يريد بعمله ذلك وجه الله تبارك وتعالى، ولا يعمل -أي عمل- مراعياً فيه أي أحد من خلق الله مهما علا شأنه، وعظم قدره، ذلك لأن الناس جميعاً لا يملكون نفع أحد ولا ضره، ولا يملكون لأي أحد شروى نقير(1) في هذا الوجود ، وإنما الملك لله سبحانه يصرّف هذا الكون بما يشاء، فالعبد هو عبد الله، ويجب عليه أن يخلص هذه العبودية له سبحانه، والعبادة(2) إنما هي ضريبة العبودية، فيجب أن تكون هذه الضريبة لله الخالق وحده؛ لا إله إلا هو. وقد روي عن أبي العالية –أحد مفسري السلف من التابعين- أنه فسّر قول الله سبحانه وتعالى: )شَرَعَ لَكُم مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أنْ أقِيمُوا الدِّينَ وَلاََ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ( (الشورى 13) بالإخلاص، وهذا ليس ببعيد؛ فإن الله تبارك وتعالى شرع للناس جميعاً ديناً واحداً، هذا الدين الواحد هو الاستسلام التام لأمر الله، والانقياد لحكمه، والإذعان لطاعته. وقد سبق أن ذكرتُ؛ بأن الاستسلام إنما هو استسلام الروح والجسم والعقل والقلب والفكر والوجدان والضمير والغرائز بحيث تكون لله تبارك وتعالى، وهذه هي حقيقة الإسلام، ذلك لأن الله عزّ وجل يقول: )قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَمَاً مِلَةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ` قُل إِنَّ صَلَاتي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي ِللهِ رَبِ الْعَالَمِينَ` لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرتُ وَأنَا أوَّلُ الْمُسْلِمِينَ(`(الأنعام 161- 163) فالإسلام –إذاً- هو أن تكون الصلاة لله تبارك وتعالى، وأن يكون النسك –الذي هو الذبح؛ وفيه منفعة للعباد- لله عزّ وجل، وأن تكون الحياة له تعالى، وأن يكون الممات له سبحانه، وهذا هو الإخلاص. إن جميع الرسالات التي جاءت من عند الله تبارك وتعالى لتحقيق منهج الله في الأرض، ولوصل العباد بالله عزّ وجل من خلال أوامره وفرائضه، هذه الرسالات جميعاً التقت على إخلاص العبادة لله، فالله تبارك وتعالى يقول: )وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِ أُمَةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ( (النحل 36) ويقول: )وَمَا أرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ( (الأنبياء 25) فالعبادة الخالصة لله تبارك وتعالى تعني أن يكون العبد مخلصاً لله سبحانه وتعالى سرّه وجهره، لا يبتغي بأي عمل من الأعمال إلا وجه الله تبارك وتعالى. وإذا كان العبد يقف في اليوم والليلة خمس مرات على الأقل بين يدي الله تبارك وتعالى، يكرر -في كل مرة يقفها- عدة مرات قوله تعالى: )إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ((الفاتحة 5) فإن عليه أن يكون صادقاً في قوله، فإنه يخاطب من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء؛ الذي يعلم السرائر كالعلانية؛ ويعلم ما يختلج بين حنايا ضميره، ويحيط بكل ما يكتنفه سره، وعليه أن يدرك بأن هذا الخطاب إنما هو موجه لله، فإن كان -في أي عمل من الأعمال التي يعملها- يبتغي غير وجه الله تبارك وتعالى فإن ذلك ينافي هذا القول، إذ هو يقول: )إِيَّاكَ نَعْبُدُ( وهذا حصر؛ حصر العبادة في ذات الحق عزّ وجل، إذ تقديم المعمول على العامل يفيد الحصر، فمعنى ذلك؛ لا نعبد إلا إياك، ولئن كان يبتغي بهذه العبادة غير وجه الله سبحانه وتعالى؛ فماذا عسى أن يكون أمره؟.
هـل الريـاء شـرك؟ إن الله عز وجل بيّن في محكم كتابه العزيز أن عدم إخلاص العبادة لله -أي الرياء- هو ضرب من الإشراك، فالله تعالى يقول: )فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحَاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِهِ أَحَداً(. (الكهف 110) المفسرون الذين يعتنون بالروايات؛ ويربطون في تفسيرهم بين الآيات وأسباب نزولها، ذكروا أسباباً متعددة لنزول هذه الآية الكريمة، فمنهم من ذكر: بأنها نزلت في الرجل الذي يعمل العمل لوجه الله تبارك وتعالى، فإذا اطّلع عليه الناس سره ذلك، ومنهم من يقول: بأنها نزلت في الذي يجاهد في سبيل الله، ولكن إذا سمع ثناء الناس عليه وشكرهم له على الجهاد انشرح صدره لذلك، ومنهم من قال: بأنها نزلت فيمن يبر والديه ويصل أرحامه وهو يقصد بذلك وجه الله؛ ولكن عندما يثنى عليه بسبب ذلك يعجبه هذا الثناء. والآية -في الحقيقة- هي أعم من هذه الأسباب بأسرها، وإنما من شأن المفسرين -كما هو معروف في مصطلح المتقدمين منهم- أن يقولوا بأن الآية نزلت في كذا؛ إن كان حكمها يشمل ذلك الأمر، وقد نبه على هذا بعض حذاق المفسرين من المتقدمين أنفسهم. فالآية الكريمة تدل على أن عبادة الله تبارك وتعالى يجب أن تكون خالصة لا تشوبها شائبة من رياء أو ابتغاء غرض من أغراض هذه الحياة الدنيا. ومفهوم العبادة -كما تعلمون- هو مفهوم عام، لأن العبادة -كما قلت- هي ضريبة العبودية، فهي -إذاً- الطاعة المطلقة لله عز وجل، فكل أمرٍ أًمَرَ الله سبحانه وتعالى به يجب أن يمتثل طاعة له، وكل أمر حذّر الله سبحانه وتعالى منه يجب أن يجتنب ابتغاء مرضاة الله عز وجل أيضاً، وهذا هو معنى إخلاص الدين؛ فالدين الطاعة، والطاعة تكون في الأوامر والنواهي )وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصينَ لَهُ الدِّينَ( (البينة 5) أي مخلصين له الطاعة، فالأوامر والنواهي كلها تدخل في الدين، لأنها تدخل في باب طاعة الله تبارك وتعالى. فالمقصود بقوله سبحانه وتعالى: )فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحَاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِهِ أَحَداً( (الكهف 110) ألا يقصد بأي عمل من الأعمال التي يتقرب بها العبد إلى الله عز وجل؛ سواء كان هذا العمل فيما بينه وبين ربه؛ كالصلوات والصيام والحج، أو كانت فيه منفعة للعباد؛ كالزكوات والصدقات وعون الضعيف وإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم وبر الوالدين وصلة الرحم، وكذلك اجتناب المنهيات، أن لا يقصد ذلك كله إلا لأجل وجه الله عز وجل )فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحَاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِهِ أَحَداً( (الكهف 110). وهناك رواية أخرجها الترمذي الحكيم في "نوادر الأصول" من طريق أوس بن شدّاد - فيما أحسب- (أنه كان يبكي؛ فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أبكاني أمر رأيته على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله؛ ما هذا الذي على وجهك؟ قال: ((أمر أتخوفه على أمتي من بعدي)) فقلت له: يا رسول الله؛ وما هو؟ فقال: (( الشرك والشهوة الخفية)) فقلت له: يا رسول الله؛ أو تشرك أمتك؟ فقال: ((نعم؛ أما إني لا أقول لك بأنهم يعبدون شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولا وثناً، ولكنهم يراؤون في أعمالهم)) فقلت: يا رسول الله؛ هل الرياء شرك؟ فقال: ((نعم)) فقلت له: يا رسول الله؛ وما الشهوة الخفية؟ فقال: ((يصبح أحدهم صائماً فتعرض له شهوة من شهوات الدنيا فيدع صيامه))(1). يقول عبد الواحد بن زيد(2) -وهو أحد الرواة في سند هذا الحديث-: (بأنه رأى الحسن البصري(3) فسأله: هل الرياء شرك؟ فقال له: نعم؛ أما تقرأ قول الله تعالى: )فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحَاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِهِ أَحَداً (.(الكهف110) الرياء هو الشرك الخفي وقد جاء في العديد من الروايات تسمية الرياء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند السلف الصالح بـ"الشرك الخفي" وسماه بعضهم "الشرك الأصغر" وهو معنى قول العلامة أبي مسلم(1) عندما يقول: وراقب وصايـا اللِه سراً وجـهرةً وجرِّد على الإخلاص جِدّكَ في التُقى ففـي كل نفسٍ غفلةٌ وفتورُ ففوقَكَ بالشركِ الخـفي خبيرُ يعني؛ أن اجتهادك في تقوى الله تبارك وتعالى –وكما تعلمون أن تقوى الله تشمل فعل أمره واجتناب نهيه- جرّده على الإخلاص، بحيث تجعل هذا الاجتهاد خالصاً لوجه الله تعالى الكريم، ذلك لأن أعلاك من هو خبير بالشرك الخفي، وخبير بما في حنايا نفسك وما ينطوي عليه ضميرك ويكتنفه سرّك، فأنت إن أردت بأي عمل من الأعمال غير وجهه الكريم، فسبحانه وتعالى به خبير. وقد جاء في حديث أخرجه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تبارك وتعالى: ((أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، من عمل عملاً لي أشرك فيه غيري تركته وشركه)) ومعنى ذلك؛ أن العمل الذي عمله العبد لوجه الله تعالى، كصلاة أو صوم أو حج أو صيام أو زكاة أو جهاد أو بر الوالدين أو صلة الرحم أو عون الضعيف أو إغاثة الملهوف أو الإنفاق في سبيل الله أو تعلم العلم أو تعليمه أو أي شيء من هذا القبيل، وأشرك فيه غير الله تبارك وتعالى، فإن ذلك العمل –والعياذ بالله- لا يتقبل عند الله، ذلك لأن الله تبارك وتعالى عزيز؛ والعزيز من شأنه ألا يريد مساهمة غيره، والله تبارك وتعالى غنيّ، ومن شأن الغني أن يستغني عن مشاركة غيره. وقد جاء أيضاً في حديث أخرجه الدارقطني أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تبارك وتعالى: ((أنا خير شريك، فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فهو لغيري، يا أيها الناس أخلصوا لله تعالى أعمالكم، ولا تقولوا هذا لله والرحم، فإنها للرحم وليس لله فيها شيء، ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم، فإنها لوجوهكم وليس لله تعالى فيها شيء)). وجاء أيضاً في حديث أخرجه ابن ماجة عن أبي سعيد بن أبي فضالة -وهو من الصحابة- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إذا كان يوم القيامة يقوم الناس لله رب العالمين، نادى منادٍ: من عمل عملاً لله تعالى أشرك فيه غير الله فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله لا يقبل إلا ما كان خالصاً له)). وجاء أيضاً في رواية أخرى أخرجها الدارقطني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر: ((بأنه يؤتى يوم القيامة بالصحف المختمة فتنصب بين يدي الله سبحانه وتعالى، فيقول الله تعالى لملائكته وهو أعلم: يقبل هذا ويردّ هذا. فيقولون له: يا ربنا لم نر إلا خيراً، فيقول الله عز وجل: هذا ابتغي به غير وجهي، وما ابتغي به غير وجهي فلا أقبله)).
حكم المرائي هذه الأحاديث كلها تدل على أن ابتغاء غير وجه الله تبارك وتعالى؛ بأي عمل من الأعمال؛ إنما هو ضرب من ضروب الشرك الجزئي(1) أو كما يسمى الشرك الخفي أو الشرك الأصغر ، ولكنه لا يصل بصاحبه إلى أن يُخرج من ملة الإسلام ، بحيث لا تحل مناكحته ولا موارثته .. إلى غير ذلك من أحكام ، وإنما ذلك أمر فيما بينه وبين ربه ، فالله تبارك وتعالى لا يقبل أعماله ، لأنه ابتغى بأعماله غير وجه الله عزّ وجلّ.
التحذير من الرياء قد جاء في كتاب الله تبارك وتعالى التحذير الشديد من الرياء فالله عزّ وجلّ يقول: )أَرَءيتَ الَّذِي يُكَذِبُ بِالدِّينِ` فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ` ولا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ` فَوَيْلٌ للمُصَلِّينَ` الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ` الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ( (الماعون 1-7) فترون أن الله عزّ وجلّ توعّد المرائين هنا بالويل، والويل هو العذاب الشديد.
الرياء يحبط الأعمال والله سبحانه وتعالى بيّن أنّ الرياء يُحبط الأعمال وينسفها نسفاً ، بحيث لا تكون لها قيمة عند الله عزّ وجلّ يوم القيامة ، يقول الله عزّ وجلّ: )يَا أيُّها الَّذِينَ آَمَنُواْ لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيهِ تُرابٌ فَأصَابَهُ وَابِلٌ فَترَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُوَن عَلَى شَيءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الْكَافِرِينَ( (البقرة 264) إن الله تبارك وتعالى بيّن بأن هؤلاء لا يكون لهم ربح مما عملوا، ذلك لأنهم ابتغوا بهذا العمل غير وجه الله، فيكون مثلهم ) كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً( كمثل الصخرة التي عليها طبقة خفيفة من تراب، لا تكاد هذه الطبقة تُنبت شيئاً، ثم يأتي المطر ويقضي على وجودها، فإذا بهذا المنظر الكالح البغيض القبيح من هذه الصخرة باد، ثم يبيّن بعد ذلك أنهم لا يقدرون على شيء مما كسبوا، هؤلاء المراؤون لا ينتفعون بشيء مما كسبوا، إذ المنتفعون بأعمالهم إنما هم الذين يقصدون بهذه الأعمال وجه الله.
الصورة الصحيحة للإنفاق وقد الله سبحانه وتعالى بيّن الصورة الصحيحة للإنفاق؛ التي يكون فيها المنفق مخلصاً لله تبارك وتعالى؛ لا يبتغي على إنفاقه جزاءً في الدنيا، ولا شكراً من العباد، فقال عزّ وجلّ: )وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَةٍ بِرَبْوَةٍ أصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَينِ فَإِن لَّم يُصِبْها وَابِلٌ فَطَلٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ( (البقرة 265) هذه الصورة تقابل تلك الصورة، مثل إنفاق هؤلاء في سبيل الله )كمثل جنة بربوة( جنة مرتفعة على ربوة، والجنة عندما تكون على ربوة مرتفعة يكون لها منظر رائق بهيج، هذه الجنة أصابها وابل أي أصابها غيث من عند الله )فآتت أكلها ضعفين( تضاعف ما تُؤتيه من الثمار )وإن لم يصبها وابل فطلّ( من حيث إن الأرض مخصبة طيبّة قابلة للإنبات يكفيها الطلّ عن الوابل، فتؤتي أكلها ضعفين بمشيئة الله سبحانه وتعالى، هذا هو الإنفاق في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله، مع خلوص النية لوجه عزّ وجلّ.
التحذير من الرياء في السنة وهناك الكثير من الأحاديث الصحيحة والحسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفيد التحذير من الرياء، فقد جاء في رواية عند الشيخين عن أسامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يؤتى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلق أقتابه، ويدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع عليه أهل النار ويقولون له: ما بالك يا فلان؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه)). إن الذي يدعو الناس إلى الله عزّ وجلّ من غير أن يكون مخلصاً في عمله ومحاسباً لنفسه، حاملاً لها على ذلك العمل الصالح الذي يدعو إليه، وعلى اجتناب العمل الطالح الذي يحذّر منه، من كان هذا شأنه فإنه يوم القيامة -والعياذ بالله- يكون دركه في النار أنزل من أولئك الذين كان يأمرهم، وإن كانوا عصوا أمره، ويحذرهم وإن كانوا –أيضاً- عصوا تحذيره، لأنه عرف فأدرك وقامت به الحجة على غيره، ولأن تقوم الحجة عليه من خلال أمره إياهم ونهيه إياهم أولى، فلذلك كان أشدّ عذاباً منهم والعياذ بالله. وجاء في حديث أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((يكون في آخر الزمان أناس ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم كقلوب الذئاب، يلبسون جلود الضأن من اللين، يقول الله تبارك وتعالى: أبي يغتّرون أم إياي يخادعون، فوعزتي لأبعثنّ عليهم فتنة تدع الحليم فيهم حيران)). وقد جاء أيضاً في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام مسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أول من يحاسب يوم القيامة، فذكر ثلاثة: ذكر رجلاً علّمه الله تعالى القرآن، فتعلّمه وعلّمه، فيؤتى به يوم القيامة فيذكّره الله تعالى نِعَمَهُ، ويعرّفه بها نِعمةً نعمة، فيعرفها فيقول له: فماذا عملت؟ فيقول له: يا رب قرأت كتابك؛ فقمت به آناء الليل وآناء النهار. فيقول له الله سبحانه وتعالى: كذبت؛ وإنما فعلت ما فعلت ليُقال إنك قارئ. فيؤمر به فيُسحب على وجهه إلى النار يوم القيامة؛ والعياذ بالله، ورجل استشهد في سبيل الله فيُؤتى به فيعرّفه الله نِعَمَهُ؛ نِعمةً نِعمة، ثم يقول له: ماذا عملت؟ فيقول له: قاتلتُ في سبيلك حتى استشهدت، فيقول له: كذبت؛ وإنما قاتلتَ ليُقال إنك جرئ وقد قيل ذلك. فيؤمر به فيُسحب على وجهه إلى النار؛ والعياذ بالله، ويؤتى برجل آتاه الله تبارك وتعالى من صنوف المال، فيعرّفه الله تعالى نِعَمَهُ؛ نعمة نعمة، ثم يقول له: ماذا عملت؟ فيقول له: ما تركت سبيلاً تُحب أن ينفق فيها إلا أنفقتُ فيها، فيقول له: كذبت، وإنما فعلتَ ما فعلتَ ليُقال إنك جواد وقد قيل ذلك. فيؤمر به فيُسحب على وجهه إلى النار؛ والعياذ بالله)). وقد جاء في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي هريرة: ((يا أبا هريرة إن أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة)) هذا كله يدعو الإنسان إلى الاستبصار والاعتبار، وأن يحرص على مجاهدة نفسه، وحملها على الإخلاص لله تبارك وتعالى.
الإخلاص في العلم كما يُطلب من الإنسان أن يكون مخلصاً في عمله، يُطلب منه أيضاً أن يكون مخلصاً في علمه، ومخلصاً في تعليمه هذا العلم، ذلك لأن العلم أمانة الله تبارك وتعالى، وهذه الأمانة تستوجب الإخلاص، وقد رأيتم ما يدل عليه حديث أبي هريرة من أن صاحب القرآن -والعياذ بالله- إن ابتغ به غير وجه الله، ولو قام به آناء الليل وآناء النهار، إنما هو من أوائل الذين تُسعّر بهم النار يوم القيامة، فعلى الإنسان أن يطلب العلم لوجه الله تعالى، وأن يحرص على ألاّ يُريد بهذا العلم الذي يطلبه مناصب دنيوية، ولا منافع عند الناس، ولا سمعة وشهرة بينهم، وإنما يحرص كل الحرص على أن يتعلم العلم لوجه الله تعالى، بحيث يكون تعلّمه لأجل أن يعبد الله عزّ وجل على بصيرة، وأن يفيد الناس ممّا يتعلمه، وأن يدعو إلى الله عزّ وجل على بصيرة، لأن العبادة أمانة في الأعناق، وَلَئِنْ كان الإنسان عندما يعمل عملاً دنيوياً -أي عمل كان- يتعلم كيفية أدائه أولاً ليُحسن هذا العمل، فكيف بالعمل أخروياً؟ كيف إذا كان الأمر عبادة الله التي نيطت بها رسالات السماء؟ فجميع الرسالات توافدت على هذا المحيط الأرضي لأجل تطويع الناس لله بحيث يُخلصون له عبادتهم. جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام الربيع من طريق أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من تعلّم العلم ليُباهي به العلماء أو ليماري به السفهاء لَقِيَ الله وهو خائب من الحسنات)) وجاء هذا الحديث في رواية الترمذي من طريق كعب بن مالك ومن طريق أبي هريرة ومن طريق ابن عمر رضي الله عنهم بألفاظ مختلفة، وهي تتفق في المعنى مع رواية أنس عند الربيع. كل هذه الروايات تفيد على أن طلب العلم عبادة، فيجب على طالب العلم أن يُخلص هذه العبادة لله، وإلا دخل في الشرك الخفي، لا بد من أن تكون هذه العبادة خالصة لوجه الله سبحانه وتعالى، فلا يبتغي بطلب العلم ثناءً ولا نيل مرتبة دنيوية. نعم إن يسّر الله تبارك وتعالى له الرزق، وآتاه إياه بسبب ما آتاه من العلم، فقد ضاعف الله تبارك وتعالى له الخير، وتضاعف عليه الواجب؛ أن يشكر هذا الخير الذي آتاه الله، وَلَئِنْ أراد الإنسان وجه الله سبحانه وتعالى فابتغى بطلبه العلم أو بأي عمل من أعماله وجه الله؛ جمع الله تبارك وتعالى له خير الدنيا والآخرة )مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَالَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَصِيبٍ( (الشورى 20) فإن ابتغى بطلبه العلم وجه الله تبارك وتعالى فالله كفيل برزقه، ولكن عليه أن لا يسعَ لأجل نيل المراتب في هذه الحياة الدنيا، ولأجل التوصل إلى أن يَخْتِل الدنيا بالدين -كما جاء في الحديث- وإنما عليه أن يقصد ابتغاء ما عند الله )وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى(. (القصص 60)
آفـة العـصـر هناك آفة في طلب العلم ظهرت في هذا العصر، وهي آفة الشهادة، وقد أصبحت في حياة الناس المعاصرة من الضرورات، فعلى الإنسان الذي يطلب العلم أن لا يريد هذه الشهادة من أجل الشهرة والرقي بها إلى المراتب العالية، ولكن عليه أن يطلب العلم لأجل عبادة الله، ثم يعتبر هذه الشهادة وسيلة للدعوة إلى الله ولنشر العلم بين عباده تبارك وتعالى وتوصيل الحق إلى أفهام الناس، لا أن يجعل هذه الشهادة غاية(!)، فإن جَعْلها غاية إنما هو -في الحقيقة- داخل في مفهوم الشرك الخفي الذي حذرت منه الآية القرآنية )فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحَاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِهِ أَحَداً(. (الكهف 110) وأنتم ترون التحذير في كتاب الله سبحانه وتعالى من أن يريد الإنسان بعمله غير وجه الله عز وجل وغير الدار الآخرة، فالله سبحانه وتعالى يقول: )مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيها مَا نَشَاءُ لِمَن نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً((الإسراء18) فمن كان يريد العاجلة بطلبه العلم، بحيث يريد أن يرقى إلى المناصب أو يتبوأ مكانة بين الناس، ويشار إليه بالبنان، ويُعطى الشهادات العالية، فهو طالب بهذا العلم غير وجه الله سبحانه وتعالى، وهو ممّن طلب به العاجلة، فكانت له هذه العاقبة؛ والعياذ بالله )ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً(. وأما الفريق الآخر؛ وهو من طلب العلم لوجه الله تعالى، وأراد به الفوز برضوانه تعالى يوم القيامة، وأن يطوع نفسه لله، ثم يحمل عباد الله على طاعته سبحانه، كان من الفريق الثاني؛ الذي قال الله تعالى فيه: )وَمَنْ أرَادَ الآخِرةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهو مُؤْمِنٌ فَأُوْلئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَشْكُوراً( (الإسراء 19) فكما أن الله عز وجل يُعبد بالأعمال الصالحة المختلفة يُعبد أيضاً بطلب العلم، وعلى طلبة العلم أن يُخلصوا هذه العبادة لوجه الله عز وجل، وأن لا يبتغوا بها جزاءً ولا شكوراً من غيره تعالى.
علاج الرياء جاء فيما رُوي عن لقمان كيفية علاج آفة الرياء، بحيث لا يبتغي بعمله إلا وجه الله، ويتجرد في جميع أعماله من شوائب الرياء وطلب أغراض الدنيا، وذلك أنّ لقمان أوصى ابنه بأن يُخلص لله جميع أعماله، فسأله ابنه عن طريق ذلك، فقال له: كتمان العمل. فقال: وإن كان إظهاره واجباً؟ فقال له: إن كان إظهاره واجباً فاجتهد في إخلاص هذا العمل لله سبحانه وتعالى، وإن كان إظهاره غير واجب فاستعن على إخلاصه لله تعالى بكتمانه. ولذلك كان السلف الصالح حريصين كل الحرص على كتمان أعمالهم التي يتقربون بها إلى الله تبارك وتعالى -من غير الفروض- عن الناس، أما الفروض فإنها تُظهر، إذ كتمانها يُؤدي إلى سوء الظن بالناس، فالنوافل ينبغي أن تكون مكتومة، وقد كان السلف يحرصون على كتمان النوافل، وإخفائها عن أبصار الناس، وإبعادها عن مسامعهم، فكانوا عندما يتهجدون يتهجدون في الخفاء، وعندما يتصدقون -صدقات النفل- يتصدقون في السر، ويحرصون على كتمان ذلك حتى عن أولئك الذين يُتصدق عليهم، لئلا ينالوا منهم جزاءً أو يُسمع لهم ذكر بين الناس، والعاقل يحرص كل الحرص على منفعته، ومنفعة الإنسان إنما تتوقف على الإخلاص. بهذا يتبين أن الرياء في الأعمال إنما يرجع إلى فساد الفطرة وانطماس البصيرة ، ذلك لأن العاقل يرى أن هذا الكون مسخر بأمر الله، فالله وحده هو المقدم والمؤخر فيه، وهو وحده الذي يوجد المعدوم ويُعدم الموجود فيه، ويبسط النعماء ويدفع الضراء، والله تبارك وتعالى وحده هو الذي يحقق للإنسان مطالبه ويستجب دعاءه ويعطيه سؤله، فلماذا يتعلق بعمله عندما يعمله لغير الله تعالى؟ ولو اجتمع أهل السموات والأرض على أن ينفعوا أحداً من الناس لم ينفعوه إلا بشيء كتبه الله له، ولو اجتمعوا على أن يضروه لم يضروه إلا بشيء كتبه الله عليه، ولو أن أهل السموات والأرض اجتمعوا على الثناء على أحد من الناس وهو عند الله تعالى مرفوض لما أفاده ذلك شيئاً، ولو أنهم اجتمعوا على ذمّه والقدح فيه والحطّ من شأنه، فإن ذلك لا يضره عند الله تبارك وتعالى إن كان مقبولاً عنده سبحانه، وعلى هذا فعلى العبد أن يبتغي بعمله وجه الله تبارك وتعالى لأجل مصلحة نفسه، إذ مصلحة نفسه إنما تُناط بالإخلاص لله تعالى. فلو أن أحداً من الناس أراد بصلاته أو صومه، أو حجه أو زكاته أو جهاده، أو بره لوالديه أو صلته لأرحامه، أو تعلمه العلم أو تعليمه، أو الدعوة إلى الله، أو نفقاته في سبيل الله، أو بأي عمل من الأعمال التي يتقرب بها إلى الله عز و جل، غرضاً من أغراض هذه الدنيا، فإن ذلك الغرض لا يمكن أن يتحقق إلا بإرادة الله، ولا يمكن أن يتحقق إلا بقدر من الله، فلماذا يطلب الشيء من غير بابه؟ إنما عليه أن يعمل العمل الخالص لله، ويطلب من الله تبارك وتعالى قضاء حاجاته، ويجعل ذلك العمل طاعة لربه سبحانه لا يبتغي عليها من عند غيره جزاءً ولا شكوراً، وإنما يحرص كل الحرص على مرضاة الله، ثم يتعرض لنفحاته، ويطلب منه سبحانه وتعالى أن يبسط له في رزقه وأن يفيء عليه من فضله. والإنسان يدرك أن الذي خلقه فسوّاه هو الله سبحانه وهو القادر عليه، فلماذا يتعلق بغيره فيبتغي بعمله غير وجه الله؟ )قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أكْفَرَه` مِن أيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ` مِن نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقدَرَهُ` ثُمَّ السَّبيلَ يَسَّرَهُ` ثُمَّ أمَاتَهُ فَأقْبَرَهُ` ثُمَّ إذا شَاءَ أنْشَرَهُ` كَلاَّ لماّ يَقْضِ مَا أمَرَهُ` فَلْيَنْظُرِ الإنْسانُ إلى طَعَامِهِ` أَنَّا صَبَبْنَا الماءَ صَبَّا` ثُمَّ شَقَقْنَا الأْرضَ شَقَّا` فَأنْبَتْنَا فِيْهَا حَبَّاً` وَعِنَبَاً وَقَضْبَاً` وَزَيْنُوناً وَنَخْلاً` وَحَدَائِقَ غُلْبَاً` وَفَاكِهَةً وَأَبَّاً` مَتَاعَاً لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ( (عبس 17-32) فإذا كان يُدرك أن الله تعالى هو الذي بسط له هذا الخير كله، وهو الذي خلقه وطوره من طور إلى طور، حتى اكتمل خلقه وصار على ما هو عليه، وهو الذي نمّى مواهبه، وبسط له في الرزق وهيأ له هذه الأسباب، وسخّر له ما في السموات وما في الأرض جميعاً، فكيف يبتغي الثناء من الناس أو يبتغي المثوبة من الناس، ويترك إخلاص العمل لله سبحانه وتعالى؟! )يا أيُّها الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِكَ الكَرِيمِ` الذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاك فَعَدَلَكَ` فِي أيِّ صُورَةٍ م َا شَاءَ رَكَّبَكَ((الانفطار 6؛8) فالإنسان خلقه الله تبارك وتعالى هذا الخلق، وأبدعه هذا الإبداع، وصنعه هذه الصنعة، وصوره هذا التصوير، ومع ذلك يريد بهذا العمل غير وجه الله. إن الله تبارك وتعالى عندما أمر عباده بعبادته ذكّرهم نعمه عليهم، يقول تعالى: )يا أيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الذِي خَلَقَكُم وَالذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون` الذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشَاً وَالسَّماءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقَاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا ِللهِ أنْدَادَاً وَأنْتُمْ تَعْلَمُونَ( (البقرة 21-22) فالذي يُرائي في عمله؛ إنما جعل لله سبحانه وتعالى أنداداً، لأنه رأى غير الله تعالى أهلاً لأن يُتقرب إليه بذلك العمل، مع أن الله لا يرضى أن يكون ذلك العمل إلا خالصاً لوجهه الكريم، ففي هذا ما ينفع العباد في تطهير سرائرهم، وجعلها خالصة لله تبارك وتعالى، وتزكية أعمالهم بالإخلاص.
دعــاء نستغفر الله -جميعاً- ونتوب إليه من مخالفة ما قلناه، ومن مخالفة أوامر الله تعالى ونواهيه، ونسأله سبحانه أن يجعلنا من عباده المخلصين، ومن حزبه المفلحين، ومن جنده المتقين، ومن أوليائه المقربين. اللهم إن نسألك بأنّا نشهد بأنك أنت الله لا إله إلا أنت؛ الواحد الأحد؛ الفرد الصمد؛ الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. نسألك ربنا أن تهب كلاً منا لساناً صادقاً ذاكراً، وقلباً خاشعاً منيباً، وعملاً صالحاً زاكياً، وإيماناً خالصاً ثابتاً، ويقيناً صادقاً راسخاً، ورزقاً حلالاً واسعاً، وعلماً نافعاً رافعاً. ونسألك ربنا أن تهبنا إنابة المخلصين، وخشوع المخبتين، ويقين الصديقين، وسعادة المتقين، ودرجة الفائزين، يا أفضل من قُصد، وأكرم من سُئل، وأحلم من عُصي، يا الله يا ذا الجلال والإكرام.
|