طُرحت فكرة تأمين منابع النفط في الخليج العربي باستخدام القوات المسلحة الأمريكية؛ في أعقاب الاستخدام السياسي للنفط في حرب أكتوبر 1973م.. حيث كان من الطبيعي أن تُتخذ الإجراءات المضادة لمنع تكرار هذه الاستراتيجية، حتى أودى الأمر إلى استخدام القوة المسلحة الأمريكية لغزو منابع النفط، وقد تبلور ذلك الاتجاه من خلال دراسة أعدتها لجنة العلاقات الدولية في مجلس النواب الأمريكي في 5/8/1975م، والتي بحثت ـ ولأول مرة ـ احتمال القيام بعمل عسكري ضد دول منتجة للنفط عند محاولتها فرض حظر نفطي..
وقد طرحت هذه الدراسة، والتي أعدتها هذه اللجنة التي شُكّلت برئاسة (توماس مرجان)، العديد من الخيارات المتاحة أمام السياسة الأمريكية في حالة نشوب مثل هذه الأزمة.. وقد تمحور الهدف الاستراتيجي لاستخدام القوة المسلحة الأمريكية ـ بعد دراسة العديد من الاختيارات ـ ليكون (القيام بعملية عسكرية للاستيلاء على منطقة حقول النفط الرئيسية الواقعة بالمنطقة الشرقية الممتدة بمحاذاة الخليج الفارسي، وتأمين تدفق أهم حقول النفط في الخليج والتسهيلات المصاحبة لها، والاحتفاظ بها أو السيطرة غير المباشرة عليها).
وعلى ضوء ذلك؛ فقد تمحورت المهام العسكرية التي يمكن أن تُكلف بها قوات الغزو لتأمين مصادر النفط بالاستيلاء على عدد كافٍ من الحقول والمنشئات النفطية في حالة سليمة تماماً، مع الاستعداد لتأمينها لفترة طويلة نسبيّاً، وأن تكون مجهزة بعناصر الإصلاح المتخصصة، والمعدات اللازمة لإصلاح الموجودات والممتلكات التي تكون قد تعرضت للدمار بسرعة كبيرة.. مع قيامها باتخاذ الإجراءات اللازمة لتشغيل المنشئات النفطية التي قد تتعرض للدمار دون مساعدة من «دول أوروبية»، مع قيامها بتنظيم المرور الآمن للإمدادات والمنتجات النفطية فيما وراء البحار.
وفي 23/1/1980م أعلن الرئيس الأمريكي «جيمي كارتر» في خطاب له أمام الكونجرس الأمريكي عن نظرية أمن صريحة لمنطقة الخليج، عُرفت «بمبدأ كارتر»، والذي انطوى على شقين:
أحدهما: شق سياسي، وقال فيه: (إن أي محاولة من جانب أي قوى للحصول على مركز مسيطر في منطقة الخليج؛ سوف تعتبر في نظر الولايات المتحدة هجوماً على المصالح الحيوية بالنسبة لها، وسوف يتم رده بكل الوسائل بما فيها القوة المسلحة).
أما الشق الثاني في نظرية الأمن الأمريكية في الخليج: فهي تكملة للإعلان السياسي، وقد تمثلت في إنشاء (قوة الانتشار السريع)؛ من خلال تقرير قدمته وزارة الدفاع الأمريكية عام 1988م إلى لجنة القوات المسلحة في الكونجرس، والذي على أساسه اُعْتُمِدت ميزانية هذه القوة لتلك السنة. وقد تضمن القرار الأمريكي بإنشاء قوة تدخل سريع أمريكية تتمركز في الولايات المتحدة، وتكون جاهزة لكي تُحْمَل جواً وبحراً إلى منطقة الخليج عند ذي طارئ، وقد أُطلق على هذه القوة «قيادة المنطقة المركزية»، وقد تم التخطيط الاستراتيجي لاستخدامها لتأمين منابع النفط في الخليج، كما تولى قيادتها الجنرال «شوارسكوف» الذي كُلف بقيادة قوات التحالف الأمريكي عند قيام العراق بغزو دولة الكويت، وهو الغزو الذي أعطى الدوافع والمسوِّغات اللازمة لتحرك هذه القوات، وتنفيذ مهامها المخططة في الخليج.
وهكذا استقرت القوات الأمريكية في منطقة الخليج تنفيذاً لمخططاتها التي كانت تحلم بتنفيذها منذ يناير 1975م، وجاءت إلى الخليج لمواجهة طموحات ونزوات الرئيس العراقي «صدام حسين»، وبمباركة ومساندة معظم دول العالم، وبدأت سلسلة التداعيات العربية كلها؛ من إهدار الثروات والقدرات اقتصادية منها وعسكرية، إلى حالة من التفكك والتمزق لم تشهد لها المنطقة العربية مثيلاً في تاريخها المعاصر.
* إدارة مجموعة «المحافظون الجدد» والتغيير القادم:
لقد قلبت مجموعة «المحافظون الجدد» من الحزب الجمهوري أو التي تسمى «مجموعة الصقور» منذ عام 1992م ما أطلق عليه «دليل التخطيط الاستراتيجي» للولايات المتحدة، والذي انتهى إلى صياغة مجموعة مبادئ:
أولها: ضمانات عدم قيام قوة عظمى منافسة للولايات المتحدة الأمريكية.
ثانيها: أن تمتلك الولايات المتحدة الوسائل اللازمة لمنع أي دولة منافسة من التطلع إلى دور دولي أو إقليمي، مع اعتبار أن الصين وروسيا تمثلان الخطر المحتمل.
وثالثها: منع انتشار أسلحة الدمار الشامل في دول مثل العراق، وكوريا الشمالية، وإيران؛ حتى لو أدى الأمر إلى استخدام القوة المسلحة لمواجهة ذلك الخطر.
وقد نشرت مجلة «ليمبس» الإيطالية ربع السنوية المتخصصة في الدراسات الاستراتيجية والسياسات الدولية عدة تقارير حول الحرب الأمريكية على العراق، والسيناريوهات والنتائج المحتملة التي ستعود على المنطقة العربية والقضية الفلسطينية فيما بعد نهاية هذه الحرب، وقد ألقى التقرير الضوء على المتغيرات التي حدثت في السياسة الأمريكية بعد أحداث 11/9/2001م؛ وفقاً لمذهب الأمن القومي الجديد الذي يؤكد «أن الولايات المتحدة تحتل موقعاً غير مسبوق للقوة العسكرية، وتتمتع بنفوذ اقتصادي وسياسي كبير.. ومن ثم فإن أمن الولايات المتحدة يكفله عالم أفضل مكوَّن من ولايات متحدة كثيرة، جميعها صغيرة وغير قوية، ولكنها مُشَكَّلة على الطراز الأمريكي أيضاً.. وهو ما يعني أنه من الممكن صنع «عالم جديد» من خلال الحرب العالمية المعلنة ضد الإرهاب، والتي ليست لها مدة محددة، وبدونها لن تنفع فكرة إقامة «إمبراطورية الخير» التي تقوم على تصدير القيم الأمريكية «الحرية، والديمقراطية، والسوق الحرة»، وتطبيقها على القارات الخمس.
وعن التغيير القادم في الشرق الأوسط جاء في تقرير آخر: «إن الولايات المتحدة كانت توافق وتساير عدم النظام في منطقة الشرق الأوسط، وكان اهتمامها الأول والأخير ينصبُّ على النفط وأمن إسرائيل فقط.. على اعتبار أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لم يكن يهدد التوازنات الاستراتيجية، بل إن عدم الاستقرار كان يخدم الولايات المتحدة لتجعل الجميع تحت سطوتها؛ في منطقة من أجدب مناطق العالم التي يتعذر حكمها والسيطرة عليها، إلى أن فوجئت الولايات المتحدة بهجوم «تنظيم القاعدة»، وظهر تهديد المصالح الأمريكية الذي جسده «أسامة بن لادن» ومن معه من الذين شاركوا في عمليات مركز التجارة والبنتاجون؛ الأمر الذي جعل الولايات تقتنع بأنها لا يمكن أن تتساهل مع الشرق الأوسط الذي يتنامى في مشاعر شعوبه معاداة الولايات المتحدة الأمريكية، فضلاً عن التهديدات التي تحدق بإسرائيل ومنابع النفط، والذي ليـس للولايات المتحـدة فيه ـ باستثناء إسرائيل - أي حليف مؤتمن، بل ومن المحتمل أن ينطلق منه في المستقبل هجوم بأسلحة غير تقليدية ضد الولايات المتحدة».
هذا وقد قرر الرئيس الأمريكي «جورج دبليو بوش» أن تبدأ إعادة تشكيل الشرق الأوسط بغزو جمهورية العراق وإزاحة حكم الرئيس «صدام حسين»؛ باعتبار أن رحيله لن يمكّنه من الحصول على مزيد من أسلحة الدمار الشامل وعلى رأسها القنبلة النووية!! كما يضمن عدم تمكنه من السيطرة على منابع النفط، بل وأيضاً لكي يصبح نقطة الانطلاق للحملة التي تستهدف ما أُطلق عليه (إدخال الديمقراطية إلى الشرق الأوسط من البحر الأحمر حتى الخليج)؛ أي عملية ضم المسلمين إلى إمبراطورية الخير التي ستبدأ من العراق.
ولم تعنّ حتى الآن رؤية استراتيجية واضحة المعالم للخريطة القادمة؛ حيث ما زال المشروع الجيواستراتيجي قيد التطوير وخاصةً أن القوة العسكرية لن تكفي لإقامتها، وعلى الأرجح فإن الإدارة الأمريكية قد عزمت أمرها على تنفيذ مشروعها على مراحل، تكون مرحلته الأولى هي الإطاحة بنظام الرئيس (صدام حسين)، ثم نزع أسلحته وإقامة حكومة صديقة في بغداد، وهو ما تم وجاري تنفيذه في المنظور القريب، ثم يأتي بعد ذلك دور الأنظمة غير الموثوق بها والمارقة بعد ذلك واحداً تلو الآخر، ولعل ما نشهده من تهديدات ولغة تحذير حاسمة لكل من سوريا ولبنان من جهة والجمهورية الإيرانية في جهة أخرى؛ تشير إلى جدية تنفيذ المراحل التالية من المشروع الواسع للتغيير القادم في منطقة الشرق الأوسط.
ومن هنا، وطبقاً للتقديرات الأمريكية، فإن الغزو العسكري الأمريكي للعراق يتصدر أهدافه: خلخلة المنطقة وإعادة رسم خريطتها السياسية الإقليمية بما يخدم الهدف الإسرائيلي؛ بتسوية الأرض عسكريّاً وسياسيّاً ونفسيّاً للتهيئة لواقع عربي مخلخل يسهل تقبله للضغوط؛ من أجل حمل النزاع العربي الإسرائيلي وفقاً للرؤية الإسرائيلية، كما أن غزو العراق يُعد هدفاً سهلاً وهشاً سياسيّاً ينطلق منه باقي مراحل المشروع الأمريكي لهز المنطقة كلها بإقامة نظام حكم مختلف.
* اتجاهات التغيير القادم:
لعل قراءة الهدف الحقيقي «وغير المعلن» من عملية الغزو الأمريكي للعراق؛ تقودنا إلى اتجاهات التغيير القادم، والذي يعني «الأهمية المطلقة لإزاحة النظام العراقي باعتباره الخطوة الأولى على طريق إحداث تغيير شامل في الشرق الأوسط؛ مما يعني إسقاط حكومات، وتقسيم دول، وتغيير ملامح الخريطة السياسية في المنطقة لفرض نظام شرق أوسطي جديد خاضع للإدارة الأمريكية من جهة، وتؤدي فيه إسرائيل وتركيا دوراً محوريّاً من جهة أخرى».
هذا وتسير اتجاهات التغيير في إطار هذا الهدف في عدة اتجاهات:
لعل أولها: سرعة تحويل العراق إلى (مستعمرة أمريكية)، حيث إن السيطرة الأمريكية على إمدادات النفط وأسعاره، وإعادة نظام إدارته دوليّاً تعدُّ من أهم أبعاد استراتيجية (عراق ما بعد صدام حسين)؛ حيث إن ذلك يوفر للولايات المتحدة الأمريكية التحكم في تطلع الصين لأن تكون المنافس الاقتصادي لها؛ بعد أن قفزت معدلات التنمية فيها إلى معدلات التنمية الاقتصادية العالمية بالقدر الذي يرشحها لأن تكون إحدى القوى المنافسة فوق قمة العالم سياسيّاً.. وأن معدل استمرار التنمية في الصين بمعدلها الحالي قد يجعل منها القوة الاقتصادية الثانية على العالم بعد عشر سنوات قادمة، ومن ثم يكون لها القدرة على أن تكون منافساً للولايات المتحدة خاصة في المجال الحيوي الإقليمي لها في آسيا، وإحدى ضمانات ذلك التفوق المتنامي هو اعتمادها على نفط الخليج الذي يعطي 80 % من احتياجاتها، ومن ثم فإن سيطرة الولايات المتحدة عليه تعدُّ الضمان الوحيد لعدم استمرار التنمية بنفس معدلاتها.
من هنا، ومن خلال تأييد الاستراتيجية الأمريكية الجديدة المعلنة، والتي تضع على قمة أولوياتها عدم السماح لأي قوة دولية بأن تكون منافسة للولايـات المتحـــدة.. ولما كانت الـصين ـ التي طُرحت أكثر من مرة بوصفها عدواً محتملاً ـ تندفع بقوة اقتصادية إلى وضع منافس للولايات المتحدة معتمدة على طاقة انطلاقها على نفط الخليج؛ فإن إعادة تشكيل خريطة النظام النفطي يمكن أن يضع في يد الولايات المتحدة قوة ضغط على الصين لم تكن في يدها من قبل.. ومن منطلق أن المنطقة العربية بما تملكه من ثروات نفطية ميدان لتحريك تيار التقييد الإقليمي في العالم، وبصفة خاصة (خريطة النظام النفطي).
وقد طرحت الإدارة الأمريكية مخططاتها لإدارة النفط العراقي في مرحلة ما بعد (صدام حسين)؛ حيث أعد مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي بالتعاون مع مؤسسة «جيمس بيكر» وزير الخارجية الأمريكي السابق في جامعة رايز؛ دراسة لحساب الإدارة الأمريكية حول كيفية التعامل مع النفط العراقي بعد الحرب، وتدعو هذه الدارسة التي تبنتها إدارة الرئيس بوش إلى إقامة حكومة محلية تحل محل الحكومة العراقية التي تمت إزاحتها بالقوة عن السلطة، وأن تقوم هذه الحكومة الجديدة بإلغاء جميع العقود النفطية السابق إبرامها مع كل من فرنسا والصين وروسيا، وأن تبدأ استثمارات جديدة مع الولايات المتحدة وبريطانيا.. وقد قدرت الإدارة الأمريكية أن عراق ما بعد «صدام حسين» يلزم إعادة بنيته التحتية اقتصاديّاً واجتماعيّاً؛ وتسديد ديون بنحو «مائة مليار دولار» إلى جانب صرف تعويضات حرب كل من إيران والكويت؛ مما يعني بالضرورة زيادة كميات إنتاجه النفطي من 2.5 مليون برميل يوميّاً إلى ستة ملايين برميل يوميّاً، ومن ثم فإن الزيادة المتوقعة والناتجة عن الإدارة الأمريكية للنفط تعني تجاوز السقف الحالي الذي حددته «منظمة الأوبك»، كما تعني إغراق السوق العالمية للنفط؛ مما قد يهبط بسعره إلى مستويات لا سابق لها، وما ينتج عن ذلك من انفراط عقد (منظمة الأوبك)، وتراجع عائدات الدول المنتجة للنفط؛ إلى حد تعرضها للعجز المالي الشديد. كما ينتظر أن تتحول العراق إلى محطة وقود أمريكية، حيث تستهلك الولايات المتحدة 20 مليون برميل يوميّاً من النفط؛ لا تنتج فيه سوى ثمانية ملايين برميل فقط!!
ولعل قراءة مشروع القرار الأمريكي المقترح تقديمه لمجلس الأمن، والتي طالبت فيه برفع جميع العقوبات المفروضة ضد العراق بعد غزوه للكويت عام 1990م - باستثناء حظر توريد السلاح -، مع منح الأمم المتحدة دوراً رمزيّاً وإشرافيّاً في العراق استجابة لمطالب المجتمع الدولي - لعل قراءة مسودة هذا المشروع توضح سعي الولايات المتحدة إلى السيطرة على عائدات النفط العراقي لمدة 20 شهراً؛ تُمدد آليّاً (ما لم يقرر مجلس الأمن غير ذلك)، حيث تتولى الولايات المتحدة وبريطانيا بوصفهما «سلطة الحكم» توزيع حصيلة مبيعات النفط العراقي على أوجه الاتفاق المقترحة بالتشاور مع الحكومة المؤقتة في العراق، وإلى أن يتم تشكيل حكومة عراقية!!
أما ثاني اتجاهات التغيير: فهو ينطلق من اعتبار أن العالم العربي هو الميدان الذي اختارته الولايات المتحدة لتحقيقها نصراً سريعاً فيه من خلال غزو سهل للعراق الذي أنهكته العقوبات الاقتصادية والعسكرية على مدى اثني عشر عاماً، ولوجود (صدام حسين) على رأس النظام به، وهو لا يحظى بقبول عالمي واسع النطاق خاصة على مستوى الرأي العام الأمريكي، إضافة إلى معاونة العديد من دول المنطقة العربية في العمليات العسكرية؛ الأمر الذي أدى إلى سرعة انهيار، ليس فقط النظام العراقي، ولكن جميع السلطات التنفيذية والتشريعية والأمنية به؛ مما أدى إلى فوضى وتفش شامل لعمليات النهب والسرقة نتيجة الفراغ الذي حدث بصورة مفاجئة للسلطة!!
وتستهدف الولايات المتحدة من خلال غزوها الناجح للعراق؛ أن يقوم العراق الجديد بدورين أساسيين في وقت واحد:
أولهما: دور القوة المهيمنة التابعة للولايات المتحدة في الخليج لعزل القوة الإيرانية عن تفاعلات الشرق الأوسط..
وثانيهما: دور القوة الموحدة لإقليم «الهلال الخصيب» المُشَكَّلَة في العراق وسوريا ولبنان والأردن، وذلك لتأسيس مثلث تحالف استراتيجي يحكم الشرق الأوسط، يقوده العراق الجديد (قيادة الهلال الخصيب) وإسرائيل وتركيا.. وذلك بعد تصفية الوضع السوري واللبناني، وبذلك يمكن حسم مسألة الوحدة العربية، وعزل مصر عن الخليج والشرق العربي.
هذا، ويتجه التغيير الثالث إلى إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي من خلال التوافق التام بين حكومة «إرييل شارون» وإدارة الرئيس «جورج دبليو بوش» في مجال الحرب على الإرهاب من ناحية، والحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط من ناحية أخرى، وذلك مـن خــلال قيام الولايات المتحـدة ـ باعتبارها أحد أهم أعضاء اللجنة الأربعة، والتي تضم إلى جانبها روسيا والاتحاد الأوروبي والمنظمة الدولية، بعد التنسيق مع الحكومة الإسرائيلية ـ بوضع الأمة العربية أمام أحد خيارين:
إما خيار السلام.. وله ثلاثة متطلبات رئيسة:
أولها: نبذ العنف وإيقاف الانتفاضة الفلسطينية، وإدانة العمليات الاستشهادية الموجهة ضد المدنيين بجميع أشكالها.
وثانيها: تغيير القيادات الفلسطينية، خاصة شخص «ياسر عرفات»، وانتخاب قيادة جديدة قادرة على صياغة السلام ومتطلباته من وجهة النظر الأمريكية.
وثالثها: القبول بقوة أمنية تحل محل الشرطة الفلسطينية التي أخفقت من وجهة النظر (الأمريكية - الإسرائيلية) في فرض الأمن، وإيقاف أعمال المقاومة للأجنحة العسكرية والنشطاء من المنظمات الفلسطينية خاصة «حماس، والجهاد».
وإما خيار المقاومة: وهذا يعني أن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها بكل الوسائل بما فيها استخدام القوة العسكرية، واجتياح أراضي الضفة الغربية وغزة.. ولها الحق في مطاردة واعتقال المشتبه فيهم والنشطاء من أفراد الشعب الفلسطيني.. بل وأيضاً تأمين حدودها المشتركة بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وكل من مصر والأردن.
هذا، ويسير طريق السلام ـ وفق المنظور الأمريكي الإسرائيلي ـ نحو إقامة دولة فلسطينية منقوصة السيادة على الضفة الغربية وقطاع غزة؛ في مقابل التنازل عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين، مع وجوب استضافة الدول العربية لهم، وأن تعمل على إدماجهم في مجتمعاتها، ومنحهم جواز سفر مزدوج «محلي وفلسطيني»، مع تيسير حصولهم على فرص عمل؛ حتى تكون للدول الناشئة عائدات كبيرة من مواطنيها المقيمين في الخارج.
تلك هي أبرز اتجاهات التغيير القادم في منطقة الشرق الأوسط، والتي قد تمتد لتشمل إعادة ترتيب منطقة القرن الإفريقي بفصل الجنوب عن الشمال السوداني، وتعميق الخلافات بين إثيوبيا والسودان، وبين إثيوبيا وإريتريا، وبين الفصائل المتصارعة الصومالية من جانب آخر، مع تكثيف الوجود العسكري الأمريكي الإسرائيلي في مدخل البحر الأحمر في إطار المخطط الشامل للتغيير المنتظر!!
وفي النهاية أقول: إنه إذا كان هذا العرض للتغيير القادم قد حمل الكثير من التشاؤم والرؤية المستقبلية القاتمة.. فإن ما دفعني لذلك هو تجسيم حقيقة الأخطار التي تُخطط للأمة العربية ومنطقة الشرق الأوسط، سواء على المدى القريب أو البعيد، وكلها تُعَبِّر عن أحلام وأطماع لاستنزاف الثروات، وتحقيق الهيمنة، وفرض الإرادة على الأمة، وإعادة صياغتها بالصورة التي تحقق تلك الأوهام والمصالح.
ومهما كان ما يحمله ذلك التغيير من صدق في النيات، أو كان بهدف الردع والتخويف؛ فإن علينا أن نأخذ ذلك مأخذ الجد، وأن نعد أنفسنا للمواجهة، فقد ضاعت فلسطين عام 1948م، وضاعت جمهورية العراق عام 2003م، وأصبح التغيير القادم لغة يتداولها كبار المسؤولين والحكام، وتتناولها أجهزة البحث العلمي بالتحليل والدراسة والتفسير!!
إنَّ إدراكنا لهذه المخططات وهذه الأهداف؛ يؤكد الأهمية المطلقة لإعادة تقييم ما انتهى إليه حال الأمة العربية والإسلامية، وأن يكون الهدف المشترك هو: (كيف يمكن درء الأخطار، وحماية أمننا القومي مما يُخطط له؟)، والبداية الحقيقية هي البحث عن الأسباب التي أدت إلى إهدار مصادر قوتنا، والعمل على استنفار هذه المصادر الكثيرة والمتعددة، السياسية منها والاقتصادية والعقائدية، وحتى العسكرية، وتوجيهها توجيهاً مخططاً ومنسقاً في إطار استراتيجية مشتركة تنفذ على مراحل، تبدأ في إطار الممكن وليس المستحيل، وتُبنى على واقعنا المعاصر بكل ما فيه من نقاط ضعف، وتسعى إلى تعظيم نقاط القوة وكل عناصر القدرة المتاحة للإعداد لمواجهة حقيقية وفاعلة وعملية لكل ما يُخطط لنا.
ذلك هو الطريق الوحيد الذي يقف في وجه هذه الأحلام والأطماع!! وخاصة أن ما تتمتع به أمتنا من أوجه قوة وقدرة يرتعد منها هؤلاء الحالمون، وإدراكهم لعدم قدرتنا على حشد هذه القوى لمواجهتهم؛ هي التي دفعتهم إلى الإعلان عن تلك المخططات باسم «التغيير القادم»، والذي أخذ ويأخذ شعارات براقة باسم «الحرية، والديمقراطية»!!
إن الحقيقة المؤكدة تشير إلى أن هناك تهديداً وأخطاراً قادمة تستهدف أمننا القومي، وأن الوقت قد حان لاتخاذ كل الخطوات الفاعلة لمواجهتها قبل فوات الأوان.
------------
(*) المدير السابق لأكاديمية ناصر العسكرية العليا، مستشار رئيس الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا.
|