د. الوابل حذر من الآثار الاقتصادية السلبية لظاهرة المضاربات..
الأمة الإسلامية ليست بحاجة لاستيراد أنظمة اقتصادية أو ثقافية من الدول الكافرة
الآلية التي يدار بها سوق الأسهم ما زالت تعاني من إشكالات شرعية
النظام الربوي في بنوگه وشرگاته عار ومذلة
على جبين المسلمين
الربا يجلب معه غضب الرحمن ونزول حربه التي لا قدرة للأمة على مواجهتها
د. عبداللطيف بن عبدالله الوابل
أصبح موضوع سوق الأسهم حديث المجالس وكثرت الأسئلة حوله واتجهت شرائح من المجتمع إليه بحثا عن الأرباح وكان لابد لكل من عنده علم في ذلك أن يبين رأيه في المسألة ويدلي بدلوه براءة للذمة ونصحا للأمة. وهذه رؤية في الموضوع أطرحها حسب ما بلغه اجتهادي وأسأل الله التوفيق والسداد.
مقدمات مهمة
قبل الحديث عن سوق الأسهم وما يشتمل عليه من مصالح ومفاسد في حالته الراهنة لابد من ذكر مقدمات مهمة ليكون الحديث عن سوق الأسهم في الإطار العام للمنهج الإسلامي المتميز:
الكسب الحلال مطلب شرعي: أمر الله المؤمنين به كما أمر المرسلين، فقد ثبت في الحديث الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليمِ (51)} [المؤمنون: 51]، وقال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} [البقرة: 172]، يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام يمد يديه إلى السماء: يا رب يارب فأنى يستجاب لذلك).
الأصل في المسلم أن يتجنب الشبهات حرصا على دينه وحفظا لآخرته ولذلك أخبر صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير المتفق عليه عن ذلك بقوله: (إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ....) والمشتبه هو ما اختلف في حله أو تحريمه وفسرها الإمام الزاهد الورع أحمد بن حنبل رحمه الله بأنها منزلة بين الحلال والحرام وقال من اتقاها فقد استبرأ لدينه، وفسرها تارة باختلاط الحلال والحرام. قال سفيان بن عيينة رحمه الله: لا يصيب عبد حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال وحتى يدع الإثم وما تشابه منه.
كسب المال ليس مقصودا في ذاته ولكنه وسيلة للاستعانة به على طاعة الله، فإذا لم يكن حلالا يستعان به على طاعة الله فهو بؤس وشقاء قال تعالى: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} [القصص: 77]، وفي الحديث في مسند الإمام أحمد رحمه الله: (وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا من أحب فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفس محمد بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه، قالوا: وما بوائقه يا رسول الله؟ قال غشمه وظلمه، ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدق به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث) ومن ثم حذر صلى الله عليه وسلم من أن يصبح المال غاية يتعلق به قلب المسلم فقال: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم ....) والتعاسة هي الشقاء والبؤس وذلك حين يصبح هم الإنسان جمع المال وتكثيره بأي وسيلة دون حذر من الشبهات.
الأصل فيه الشبهة
الربا من أشد ما حرم الله سبحانه في المعاملات، بل هو أعظمها إثما فلم يتوعد الله بالحرب في آية من كتابه كما في آية الربا في قوله تعالى: {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} ومن ثم فقد حذر السلف رحمهم الله من الربا وما يتبعه من الحيل الربوية، فالأصل في المجتمع المسلم ترك الربا بأنواعه وأشكاله وكل ما يتوصل به إليه فلا يليق بأمة الإسلام أن تأخذ بالنظام الرأسمالي المبني على الربا والقمار فهذا نوع من الإعراض عن شرع الله ودينه ويجب على المسلمين أن يتعاونوا على ترك الربا بكل أشكاله وحيله وإلا وقعوا في الإثم لا محالة. ولو نظرنا إلى سوق الأسهم أو بمفهومه الواسع (سوق الأوراق المالية) لرأينا أنه في أصله نموذج غربي قائم على مفهوم الربا والقمار والحيل الربوية فالأصل فيه الشبهة حتى يتأكد المسلم خلوه من هذه المحرمات ومن ثم نجد أنه مرتبط لديهم بسعر الفائدة وغالب الشركات المسجلة فيه تعتمد في تمويلها على الربا والسندات المحرمة فلا يجوز بأي حال أن نستورده على حالته التي هي عليها دون تمحيص وتنقية له من شوائبه لأن ذلك سيؤدي إلى تجاوزات لا نهاية لها. ولقد عجبت كثيرا ممن أجاز تدوال أسهم الشركات المختلطة التي تقترض جزءا من تمويلها بالطرق الربوية وإن كان من أجاز ذلك قد وضع ضوابط ولكن كيف غاب عنه هذا التحذير الشديد والزجر العظيم من الله سبحانه لمن يتعامل بالربا قليلا كان أو كثيرا بكل أشكاله وأصنافه وذلك في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين (278) فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله (279)} [البقرة: 278 - 279]، وإن كنت لا أشك في صلاح نيتهم وقصدهم ولكن لا يجوز بحال أن يصل بنا الضعف والهزيمة إلى اللجوء لفتح هذا الباب، فالنظام الربوي سواء في بنوكه أو شركاته الربوية هو عار ومذلة على جبين المسلمين ونشاز في المجتمع الإسلامي فالواجب على أفراد الأمة المسلمة جميعا الحزم في هذا الأمر وألا يترك بحال مطلقا بدعم أو تبرير أي تعامل ربوي قل أو كثر. ولو أن المسلمين قاموا بدورهم في الاحتساب على البنوك الربوية لما أصبح النظام الاقتصادي في أغلب بلاد المسلمين قائما على الربا فالبنوك إنما تقوم على ودائع الأفراد فلو كان هناك وعي وعزم وتعاون على القيام بالواجب لأغلقت هذه البنوك الربوية أبوابها من زمن طويل ولعل من أسباب ما هو واقع بالأمة المسلمة من ذل وهوان وتسلط للأعداء ومشاكل اقتصادية وسياسية في معظم دول عالمنا الإسلامي هو قيام واستمرار هذه البنوك الربوية التي تجلب معها غضب الرحمن ونزول حربه الذي لا قدرة للأمة على مواجهة هذه الحرب ولكن الأمل لا يزال قويا في هذه الأمة التي لا يعدم الخير فيها، فخطوات إنشاء البنوك الإسلامية أثبتت قدرتها على البقاء والاستمرار ولكنها لا تزال بحاجة إلى دعم من حكومات وشعوب العالم الإسلامي حتى يتحول النظام الاقتصادي بكامله من نظام ربوي إلى نظام إسلامي لئلا تبقى البنوك الإسلامية وغيرها من المؤسسات التمويلية تعيش حالة من الشللية والضعف، لأنها تحت سيطرة بنوك مركزية ربوية تؤمن بالفائدة معيارا لرقابتها على البنوك الأخرى.
البدائل الأفضل
الأمة الإسلامية أمة ذات استقلالية، فلها شخصيتها ومنهجها المميز ونظامها الشامل فليست بحاجة إلى استيراد أنظمة سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو اجتماعية من الأمم الكافرة، فلديها ما يغنيها ويسعدها لو استمسكت بشرع الله وأخذت الكتاب بقوة، ومع هذا أقول فإذا احتاجت الأمة المسلمة إلى شيء من هذه الأنظمة التي ربما سبقتها بعض الأمم الكافرة إليها فيجب عليها وزنها بميزان الشريعة وعرضها أولا على علماء الشريعة الربانيين لتهذيبها وتصفيتها من الشوائب المحرمة التي تخالف شريعة الله والتفكير الجاد والإبداع لإيجاد بدائل أفضل وأحسن بعد دراسة وتمحيص والأمة بحمد الله فيها من الطاقات والإمكانات والقدرات البشرية والمادية ما يمكنها من ذلك. أما أن تبقى أمة استهلاك وتبعية تستورد ما في الغرب وتلبسه ثوب الإسلام أو تعطيه تأشيرة إسلامية ليكون ثوبا مرقعا يورد الأمة المهالك وينزع هويتها ويفقدها عزتها وقوتها ومكانتها لتبقى أمة ذليلة تابعة للأمم الكافرة ومن ثم ينعكس ذلك على شعوبها فتعيش هزيمة نفسية منكرة فلا إبداع ولا تفكير ولا بناء فهذا هو عين التخلف والهزيمة.
نموذج غربي
بعد هذه المقدمات أعود للحديث عن سوق الأسهم وكما قلت فهو نموذج غربي مبني على فلسفة الاقتصاد الرأسمالي الذي يعتمد أساسا على الربا بأشكاله المختلفة ويخالطه القمار والاحتكار.
فقد أكد بعض خبراء البورصات الغربية على اعتبار المضاربة على الأسعار بمفهومها الغربي (القمار) أحد الوظائف المهمة للبورصة، فالأصل فيه أنه سوق شبهات محرمة لا بد للمسلمين أن يجردوه من الشوائب المحرمة قبل ولوجه واستيراده وهو وإن كان قائما على تحقيق منافع اقتصادية، إلا أن هذه المنافع يمكن تحقيقها بدون ما يحتوي عليه من مفاسد، ولعل من أهم وظائفه أنه يعد إحدى الآليات المهمة في تجميع مدخرات الأفراد وتوجيهها إلى المشاريع ذات الإنتاجية الكبيرة سواء منها ما كان في مرحلة التكوين أو تلك القائمة والراغبة في التوسع والتطوير (السوق الأولية). أما السوق الثانوية فإنها تساعد على استمرار هذه المشاريع بما توفر من سوق لبيع وشراء حقوق المساهمين دون تأثير على أصل الثروة المتمثلة في أصول المشروع.
إن من أهم وجوه الاختلاف بين أسواق الأوراق المالية (الأسهم وغيرها) من جهة وبين الأسواق الأخرى أنه بينما يجري التعامل في الأسواق السلعية على ذات الثروة فإن التعامل في أسواق الأوراق المالية يتم على حقوق الثروة وليس على الثروة ذاتها. فالأصل في قيام هذه الأسواق هو دعم الشركات المساهمة ذات الإنتاجية الكبيرة والتي لا غنى للمجتمع اليوم عنها وذلك لدعم التنمية الاقتصادية، فغياب مثل هذه السوق قد يؤدي إلى استحالة قيام شركات مساهمة جديدة ووأد أية محاولة من قبل الشركات لزيادة رؤوس أموالها بهدف زيادة الإنتاج أو تنويعه أو تحسينه وتطويره، وكذلك فهي تعطي فرصة للراغبين في استثمار أموالهم أو تصفية استثماراتهم سواء كان الدافع لذلك هو الحاجة إلى الســـــيولة المطــلــقة (النقدية) أو الانتقال من قطاع استثماري إلى آخر تتعاظم فيه الأرباح. ولكن المشكلة كما قلت سابقا أنه نموذج غربي مبني على فلسفة الربا والقمار والاحتكار وأخواتها، فالآلية التي تدار بها السوق لا تزال تعاني من إشكالات شرعية تدور حول الربا الذي تتمول به بعض الشركات المساهمة المسجلة في السوق وكذلك الغرر الفاحش الذي يكتنف السوق مع ما فيها من احتكار المعلومات. أي أن هناك إشكالا في آلية السوق ولهذا كثيرا ما يتردد السؤال عن سر صعود وهبوط أسعار الأوراق المالية (الأسهم وغيرها) في البورصات المحلية والعالمية من لحظة لأخرى رغم عدم تغير الظروف الاقتصادية أو المراكز المالية الحقيقية للشركات التي يجري التعامل على أسهمها، بل ويزداد السؤال إلحاحا عند البعض عن الأرباح المتعاظمة في السوق والناتجة عن تفاعل قوى العرض والطلب كيف نتجت ومن الرابح ومن الخاسر بين لحظة وأخرى.
المضاربة الجشعة
فهناك انفصام للعلاقة بين الأصول المادية المملوكة للمشروع والتي تمثل أصل الثروة وبين الأصول المالية التي تباع وتشترى في السوق وتمثل حقوقا على هذه الثروة. ولعل من أهم أسباب ذلك:
هيمنة بعض أنواع البيوع المحرمة مثل البيع على المكشوف أو الشراء والمتاجرة بالحد.
المناورات التي تتم في السوق لرفع سعر ورقة معينة (سهما كان أو سندا) وذلك لوجود ما يسمى بجماعات المضاربة على الصعود يتم تكوينها لشراء أكبر كمية من أسهم إحدى الشركات وتقوم بعدها بالمناورة لجذب أنظار جمهور المتعاملين والذي يعقبه عادة شراء هذه الأوراق بأسعار مرتفعة من أيدي المضاربين من جهة من يغرر بهم ويحتال عليهم فالسوق هي بين رابح وخاسر ولا بد.
وهنا تظهر إشكالية انحراف السوق عن وظيفتها ومسارها وكيف أنها أضافت إلى وظيفتها الأساسية التي قامت من أجلها ودعت الحاجة والضرورة إلى وجودها وظائف جديدة ما كان لها أن تقوم بها لولا الرغبة المحمومة في الثراء السريع بأي طريق فتحول كثير من هذه الأسواق إلى ما يشبه أندية القمار. وليس أدل على ذلك من تخصيص بعض ردهات عدد من البورصات للمراهنة على تقلبات واتجاهات الأسعار. وأصبح أكثر من يتعامل فيها غرضه هو المضاربة على فروق الأسعار وليس الاستثمار النافع، فأصبح الهدف من المساهمة هو مجرد رغبة في جني الأرباح السريعة من خلال المضاربة على فروق الأسعار وليس الاعتراض هنا على كون المضارب (أو المساهم) يسعى للحصول على الربح فهي غاية مشروعة. ولكن لا بد من أن تكون الوسيلة كذلك مشروعة أما إذا كانت الوسيلة مبنية على محرمات وشبهات فإن الغاية لا تبرر الوسيلة. ومن ثم فإن هذا المساهم (المضارب) ليس في الحقيقة إلا مجرد دائن عادي للشركة، بل هو دائن عابر والسهم المشترى أو المباع في حقه ما هو إلا صورة شكلية تـنتقل بين أيدي المضاربين كلعب القمار وهذا النوع من المضاربين أو المـــــساهمين (وهم الأكثر عددا) يتسببون بطريقتهم هذه في مشاكل اقتصادية بدءا من التضخم وانتهاء بانصراف الناس عن المشاريع الإنتاجية الفاعلة في الاقتصاد ركضا وراء الأرباح التي يجنيها لهم المضاربون والسماسرة، إضافة إلى تراكم المدخرات النقدية في أيدي قلة من الناس ولدى البنوك التي تضطر إلى استثمار هذه الأموال غالبا في الغرب لعدم وجود قنوات استثمارية جيدة في ظل وجود فجوة كبيرة بين المقدرة الاستيعابية للهياكل الاقتصادية والأصول المادية للاقتصاد من جهة وبين المقدرة التمويلية والتي تتمثل في مدخرات الأفراد المتزايدة. وتتضاعف هذه المشاكل في الدول التي تكون فيها السوق المالية ناشئة وضيقة وغير منظمة وليس عليها رقابة فاعلة ذات خبرة جيدة تتحاشى السلبيات وتهتم بالإيجابيات ويمكن أن نخلص مما سبق إلى النقاط الآتية:
الغرر الفاحش
سوق الأوراق المالية نموذج غربي يشتمل على مجموعة من المصالح والمفاسد من وجهة نظر الشريعة الإسلامية، فالأصل فيه المنع حتى يتم التأكد من خلوه مما فيه من المحرمات فلا بد من ضبطه بالضوابط الشرعية ومن ثم يمكن الاستفادة منه وتوجيهه الوجهة الاقتصادية السليمة بما يتوافق مع شريعتنا الإسلامية.
الفقهاء - رحمهم الله - بينهم خلاف أصلا في جواز بيع الغائب وهي الصفة التي يتصف بها البيع في هذه السوق ولذلك فإن جواز انتقال وبيع الحقوق داخل سوق الأسهم هو من باب المصلحة الراجحة في أهمية هذه الأسواق وإلا فإن هناك إشكالات فقهية من حيث إن هذه السوق تشتمل على بيع غائب وأنها بيع حقوق، والحاجة والمصلحة كما يقول الفقهاء رحمهم الله تقدر بقدرها وتضبط بضوابطها لتتحقق المصلحة التي من أجلها احتمل بعض ما فيها من إشكالات ولئلا يفتح الباب على مصراعيه فتنقلب المصالح إلى مفاسد ويتحقق ضرر عام لا يدركه إلا أهل الخبرة المتخصصين في هذا الشأن.
محل العقد في أسواق الأوراق المالية (الأسهم وغيرها) على اختلاف درجات كفاءاتها يشوبها غرر فاحش، فالبيانات المنشورة لا ترفع عنه الغرر الفاحش ولا تدرأ عنه الخطر وليس باستطاعة أحد أن يزعم تطابق العلم بالصفة مع العلم بالحس في هذه البيوع، إذ الغرر فيها غرر مؤثر لا تدعو إليه حاجة، فالحاجة كما عرفها السيوطي رحمه الله: هي أن يصل المرء إلى حالة بحيث لو لم يتناول الممنوع يكون في جهد ومشقة ولكنه لا يهلك. أي أنه يؤدي إلى فوات مصلحة من المصالح المعتبرة شرعا، وكذلك لا بد أن تكون الحاجة التي تجعل الغرر غير مؤثر متعينة، فلا يمكن الوصول إليها من طريق آخر لا غرر فيه ومن ثم فلا بد أن تقدر الحاجة بقدرها، إذ إن ما جاز للحاجة يقتصر فيه على ما يزيل الحاجة فقط. فكيف وقد انقلبت المصالح المرجوة في هذه الأسواق إلى مفاسد ظاهرة أشبه ما تكون بمنتديات القمار المبنية على الحظ والغرر والغش والاحتيال، علما بأنه يمكن تنظيمها وضبطها وفق الضوابط الشرعية بما يمنع ذلك الغرر الفاحش. فالتعامل في هذه الأسواق على حالتها الراهنة محفوف بالمخاطر والأضرار المستقبلية خاصة مع اشتداد سعار المضاربات وعوامل الانهيار وتقلبات الأسعار المصاحبة للدورات الاقتصادية وتدهور الأسعار مع أزمات الكساد وشيوع البطالة، فتنشيط التداول وسرعة دوران أوراق الشركات يتم عن طريق مجموعات المضاربة الكبار الذين يتحكمون في السوق ويعقدون اتفاقات خاصة مع بعض الشركات التي يرغبون في زيادة أسعار أسهمها وبالمقابل يكسرون أسعار أسهم شركات أخرى بما يملكون من سيطرة مالية احتكارية على السوق ولهذا فهم يتلاعبون بأسعار الأسهم كما يفعل لاعبو اليانصيب بما قد يؤدي هذا الأسلوب إلى أضرار اقتصادية لا تحمد عقباها على المستوى الكلي للمجتمع.
الإضرار بالغير
السوق بحالته الراهنة يحتوي على مخالفات شرعية أخرى كما في احتكار المعلومات والتحكم فيها، إضافة إلى ما يحصل من خداع وكذب وغش وتسريب لمعلومات خاطئة داخل السوق مما يفوت المصالح المرجوة ويجلب المفاسد، فلقد أخبرني من أثق به ممن تعامل في هذه السوق بأن هناك اتفاقات سرية تعقد بين بعض كبار المضاربين وبعض الشركات لرفع قيمة أسهمها أضعاف أضعاف ما هي عليه حقيقة ليزداد سهمها صعودا فيشتري هؤلاء أسهمها لإغراء الآخرين بذلك ممن لا يملكون هذه المعلومات الخادعة والتي تقف وراء اللعبة ثم يقوم هؤلاء المضاربون بعد فترة وجيزة وقبل اكتشاف اللعبة ببيع أكبر كمية ممكنة من الأسهم لجني الأرباح ومقاسمتها مع تلك الشركة المتآمرة وفي هذا ما فيه من الاحتيال والكذب والإضرار بالغير، بل بالمجتمع كاملا فهذه السوق لها تأثير كبير على الاقتصاد الكلي ولا يفقه هؤلاء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه (من غشنا فليس منا) والحديث الآخر: (لا يحل لأحد باع بيعا فيه عيب إلا بينه).
وبناء على ما سبق فإنني لا أنصح بالتعامل في هذه السوق بحالتها الراهنة فهي شبهات بعضها فوق بعض وإنني آمل من أهل العلم الشرعي وأصحاب الخبرة الاقتصادية والمالية إعادة النظر في الآليات التي تدار بها السوق لإيجاد مخرج شرعي وفني اقتصادي يحقق المصالح المعتبرة باتقاء الشبهات صونا لدينه وحذرا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (كل جسد نبت من السحت فالنار أولى به) ومهما كثرت الأرباح في مثل هذه الأسواق الشبهاتية فلا بركة فيها وإنما البركة تكون في الحلال وإن كان قليلا ولذلك فإنني اقترح ما يلي لإصلاح الآلية التي تدار بها السوق في المملكة ودول الخليج وغيرها من بلاد العالم الإسلامي:
خطوات تصحيح المسار
إن تكوين رقابة شرعية وفنية اقتصادية مالية لها قوة فاعلة وسلطة مؤثرة لتحديد الضوابط والمعايير من شأنه أن تحد من الغرر والجهالة وسواها من المحاذير الشرعية والاقتصادية وتطبيق هذه المعايير بدقة ويكون لهذه الرقابة الحق في منع دخول أي شركة تتعامل في سلعة محرمة أو تقترض بالربا ولو كان يسيرا ولها كذلك منع كل أسلوب غير شرعي يؤدي إلى إحداث تلاعب وغش داخل السوق.
ولا بد من تصحيح مسار آلية عمل السوق بحيث تحقق السوق العناصر الآتية:
- أن تكون المعلومات المالية متاحة للجميع وبتكلفة صفرية. فلو توفرت المعلومات عن الشركات بصورتها الصحيحة للجميع لأدى ذلك إلى تخفيض درجة حمى سعار المضاربات وجني الأرباح بالطرق غير المشروعة ولتحققت المنافع الاقتصادية التي من أجلها قام السوق.
- ألا يكون بوسع أحد المضاربين في السوق السيطرة على حركات الأسعار أو جعلها عرضة للتلاعب والمناورة والخداع.
- أن يسود السوق ما يقرب من التوازن الدائم بحيث تتجه القيمة السوقية نحو القيمة الذاتية.
- الاهتمام بالسوق الأولية والتركيز عليها ولا سيما أنها لا تـزال سوقا ناشئة في عدد من الدول الإسلامية، إضافة إلى أننا بحاجة إلى كثير من المشاريع الإنتاجية ذات الوحدات الكبيرة لنتحول من سوق استهلاكية إلى سوق إنتاجية مصدرة ولذلك فلا بد للدول الإسلامية أن تهتم بذلك وتسهل إجراءات قيام الشركات النافعة في جميع المجالات الصناعية والزراعية والخدماتية التي تجلب الخير والرخاء وتوجد منافع حقيقية للبلاد والعباد وتحقق العدالة في فتح باب المساهمة لجميع أفراد المجتمع.
- تحديد ضوابط في السوق الثانوية وذلك للحد من عقد صفقات ربحية بقصد المتاجرة ورغبة في الثراء السريع دون اهتمام بما يؤدي ذلك إليه من أضرار اقتصادية مستقبلية لحساب فئة محدودة وهذا يستدعي توسيع قاعدة السوق الأولية والاهتمام بها ودعمها ليتجه الأفراد إلى الإنتاج الحقيقي بدلا مما يحصل الآن. إذ بلغتني حالات كثيرة تم فيها بيع أصول إنتاجية بل باع بعض الأفراد أصوله المادية الضرورية من بيت وسيارة وأعظم من ذلك أن البعض الآخر صار يقترض أو يشتري أصلا إنتاجيا بالتقسيط ويبيعه نقدا للدخول في مضاربات سوق الأسهم دون قرار مدروس ومعرفة جيدة بما يحتوي عليه سوق الأسهم من محاذير شرعية ومخاطر اقتصادية والأسوأ من ذلك كله أن طائفة من الناس أهملوا وظائفهم وأعمالهم سعيا وراء الكسب السريع وسراب الأرباح المتصاعدة يدفعهم إلى كل ذلك الدعاية القوية التي يقوم بها المضاربون من خلال السماسرة مقابل عمولة محددة لهم ولم يدر بخلد هؤلاء المتعجلين أنه ربما كانت هذه الأرباح في لحظة ما جزءا من رأسماله الذي ربما يخسره في صفقة لاحقة واحدة.
- تسهيل فتح قنوات استثمارية متنوعة لاستيعاب الفائض النقدي لدى الأفراد بحيث تكون هذه القنوات منضبطة بضوابط شرعية وقواعد نظامية بعيدا عن التعقيد أو مضارة من يسعى لإيجاد منفعة اقتصادية أو أصلا إنتاجيا يستفيد منه ويفيد البلاد وفي هذا جمع للمصالح ودفع للمفاسد وتحقيق لرفاهية الأفراد وبناء مستقبل واعد بالخير.
- نشر الثقافة الصحيحة الاستثمارية من الجهة الشرعية والاقتصادية والنظامية من خلال المنابر الإعلامية والقنوات التعليمية وغير ذلك من وسائل التوعية العامة حتى يتحقق المقصد الشرعي من حفظ أموال الناس وقبل ذلك سلامة دينهم وهذا بلا شك هو من القيام بواجب الأمانة التي حملها الله الراعي تجاه الرعية لإصلاح دينهم ودنياهم. قال الإمام الشافعي رحمه الله (منزلة الوالي من الرعية بمنزلة والي اليتيم).
|