باب
( ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين )
وقوله الله عز وجل : ' " يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق " .
في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى : '" وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا " قال : هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح .
فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم : أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً . وسموها بأسمائهم . ففعلوا ، لم تعبد . حتى إذا هلك أولئك ونسى العلم عبدت .
وقال ابن القيم ، قال غير واحد من السلف : لما ماتوا عكفوا على قبورهم ، ثم صوروا تماثيلهم ، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم .
وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم . إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله " أخرجاه .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إيكم والغلو ، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو " .
ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " هلك المتنطعون " قالها ثلاثاً فيه مسائل :
الأولى : أن من فهم هذا الباب وبابين بعده تبين له غربة الإسلام ، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب .
الثانية : معرفة أول شرك حدث في الأرض أنه بشبهة الصالحين .
الثالثة : أول شئ غير به دين الأنبياء ، وما سبب ذلك مع معرفة أن الله أرسلهم .
الرابعة : قبول البدع من كون الشرائع والفطر تردها .
الخامسة : أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل ، فالأول : محبة الصالحين . والثاني : فعل أناس من أهل العلم شيئاً أرادوا به خيراً ، فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره .
السادسة : تفسير الآية التي في سورة نوح .
السابعة : جبلة الادمي في كون الحق ينقص في قلبه والباطل يزيد .
الثامنة : فيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدع سبب الكفر .
التاسعة : معرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة ، ولو حسن قصد الفاعل .
العاشرة : معرفة القاعدة الكلية ، وهي النهي عن الغلو ومعرفة ما تؤول إليه .
الحادية عشرة : مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح .
الثانية عشرة : معرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها .
الثالثة عشرة : معرفة شأن هذه القصة وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها .
الرابعة عشرة : وهي أعجب وأعجب قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث ومعرفتهم بمعنى الكلام ، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم ، حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح أفضل العبادات ، فأعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه فهو الكفر المبيح للدم والمال .
الخامسة عشرة : التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة .
السادسة عشرة : ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك .
السابعة عشرة : البيان العظيم في قوله : لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين .
الثامنة عشرة : نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين .
التاسعة عشرة : التصريح بأنها لم تعبد حتى نسى العلم ، ففيها بيان معرفة قدر وجوده ومضرة فقده .
العشرون : أن سبب فقد العلم موت العلماء .
حديث أم سلمة في كنسية الحبشة
قوله : في الصحيح : عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور . فقال : " أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح ، بنوا على قبره مسجداً ، وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله " فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين : فتنة القبور وفتنة التماثيل .
قوله : في الصحيح أي الصحيحين .
قوله : أن أم سلمة هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشية المخزومية . تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة سنة أربع ، وقيل : ثلاث ، وكانت قد هاجرت مع أبي سلمة إلى الحبشة ماتت سنة اثنتين وستين .
قوله : ذكرت لرسول الله وفي الصحيحين أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم و الكنسية بفتح الكاف وكسر النون : معبد النصارى .
قوله : أولئك بكسر الكاف خطاب للمرأة .
قوله : إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح هذا ـ والله أعلم ـ شك من بعض رواة الحديث : هل قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا أو هذا ؟ ففيه التحري في الرواية . وجواز الرواية بالمعنى .
قوله : وصوروا فيه تلك الصور الإشارة إلى ما ذكرت أم سلمة وأم حبيبة من التصاوير التي في الكنسية .
قوله : أولئك شرار الخلق عند الله وهذا يقتضى تحريم بناء المساجد على القبور ، وقد لعن صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك كما سيأتي .
قال البيضاوي : لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً لشأنهم ، ويجعلنها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها واتخذوها أوثاناً لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم .
قال القرطبي : وإنما صور أوائلهم الصور ليتأسوا بها ويتذكروا أعمالهم الصالحة ، فيجتهدوا كاجتهادهم ، ويعبدوا الله عند قبورهم ، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم ووسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها . فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك ، سداً للذريعة المؤدية إلى ذلك .
قوله : فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين : فتنة القبور وفتنة التماثيل هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ، ذكره المصنف رحمه الله تنبيهاً على ما وقع من شدة الفتنة بالقبور والتماثيل فإن فتنة بالقبور كالفتنة بالأصنام أو أشد .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ المساجد على القبور لأنها هي التي أوقعت كثيراً من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك . فإن النفوس قد أشركت بتماثيل الصالحين ، وتماثيل يزعمون أنها طلاسم الكواكب ونحو ذلك . فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر . ولهذا تجد أهل الشرك يتضرعون عندها ، ويخشعون ويخضعون ، ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله ولا وقت السحر ، ومنهم من يسجد لها ، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد ، فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها . حتى نهي عن الصلاة في المقبرة مطلقاً ، وإن لم يقصد المصلى بركة البقعة بصلاته ، كما يقصد بصلاته بركة المساجد ، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها ، لأنها أوقات يقصد فيها المشركون الصلاة للشمس ، فنهى أمته عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصد ما قصده المشركون ، سداً للذريعة . وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركاً بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ولرسوله ، والمخالفة لدينه وابتداع دين لم يأذن به الله ، فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم : أن الصلاة عند القبور منهى عنها ، وأنه صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذها مساجد ، فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك : الصلاة عندها واتخاذها مساجد ، وبناء المساجد عليها . وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه . وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة . وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك . وطائفة أطلقت الكراهة والذي ينبغي أن تحمل على كراهة التحريم ، إحساناً للظن بالعلماء ، وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن فاعله والنهي عنه . ا هـ كلامه رحمه الله تعالى .
ومن أسباب الشرك عبادة الكواكب واتخاذ الاصنام بحسب ما يظن أنه مناسب للكواكب [من] طباعها .
وشرك قوم إبراهيم عليه السلام كان - فيما يقال - من هذا الباب . وكذلك الشرك بالملائكة والجن واتخاذ الأصنام لهم .
وهؤلاء كانوا مقرين بالصانع ، وأنه ليس للعالم صانعان ، ولكن اتخذوا هؤلاء شفعاء ، كما أخبرعنهم تعالى بقوله : " والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " . "ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون" .
وكذلك كان حال الأمم السالفة المشركين الذين كذبوا الرسل . [كما] حكى الله تعالى عنهم في قصة صالح عليه السلام عن التسعة الرهط الذين تقاسموا بالله ، [أي تحالفوا بالله] ، لنبيتنه وأهله . فهؤلاء المفسدون المشركون تحالفوا بالله عند قتل نبيهم وأهله ، وهذا بين أنهم كانوا مؤمنين بالله إيمان المشركين .
فعلم أن التوحيد المطلوب هو توحيد الإلهية ، الذي يتضمن توحيد الربوبية . قال تعالى : "فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون" . " منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون * وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون * ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون * أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون * وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون ". وقال تعالى : "أفي الله شك فاطر السماوات والأرض" . " وقال صلى الله عليه وسلم : كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " ولا يقال : أن معناه يولد ساذجاً لا يعرف توحيداً ولا شركاً ، كما قال بعضهم - لما تلونا ، " ولقوله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل : خلقت عبادي حنفاء ، فاجتالتهم الشياطين " الحديث . وفي الحديث المتقدم ما يدل على ذلك ، حيث " قال : يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" ولم يقل : ويسلمانه . وفي رواية " يولد على الملة " وفي أخرى : " على هذه الملة " .
وهذا الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم هو الذي تشهد الأدلة العقلية بصدقه . منها ، أن يقال : لا ريب أن الإنسان قد يحصل له من الأعتقادات والإرادات ما يكون حقاً ، وتارة ما يكون باطلًا ، وهو حساس متحرك بالإرادات ، ولا بد له من أحدهما ، ولا بد له من مرجح لأحدهما . ونعلم أنه إذا عرض على كل أحد أن يصدق وينتفع وأن يكذب ويتضرر ، مال بفطرته إلى أن يصدق وينتفع ، وحينئذ فالاعتراف بوجود الصانع الإيمان به هو الحق أو نقيضه ، والثاني فاسد قطعاً ، فتعين الأول ، فوجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والإيمان به . وبعد ذلك : أما أن يكون في فطرته [محبته أنفع للعبد أولاً . والثاني فاسد قطعاً ، فوجب أن يكون في فطرته] محبة ماينفعه .
ومنها : أنه مفطور على جلب المنافع ودفع المضار بحسه . وحينئذ لم تكن فطرة كل واحد مستقلة بتحصيل ذلك ، بل يحتاج إلى سبب معين للفطرة، كالتعليم ونحوه ، فإذا وجد الشرط وانتفى المانع استجابت لما فيها من المقتضي لذلك .
ومنها : أن يقال : من المعلوم أن كل نفس قابلة للعلم وإرادة الحق ، ومجرد التعليم والتحضيض لا يوجب العلم والإرادة ، لولا أن في النفس قوة تقبل ذلك ، وإلا فلو علم الجهال والبهائم وحضضا لم يقبلا . ومعلوم أن حصول إقرارها بالصانع ممكن من غير سبب منفصل من خارج ، وتكون الذات كافية في ذلك ، فإذا كان المقتضي قائماً في النفس وقدر عدم المعارض ، فالمقتضي السالم عن المعارض يوجب مقتضاه ، فعلم أن الفطرة السليمة إذا لم يحصل لها ما يفسدها ، كانت مقره بالصانع عابدة له . ومنها : أن يقال ، إنه إذا لم يحصل المفسد الخارج ولا المصلح الخارج ، كانت الفطرة مقتضية للصلاح ، لأن المقتضي فيها للعلم والارادة قائم ، والمانع منتف .
ويحكى عن أبي حنيفة رحمه الله : أن قوماً من أهل الكلام أرادوا البحث معه في تقرير توحيد الربوبية . فقال لهم : أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة، تذهب فتمتلىء من الطعام والمتاع وغيره بنفسها ، وتعود بنفسها ، فترسي بنفسها ، وتفرغ وترجع ، كل ذلك من غير أن يدبرها أحد؟ ! ! فقالوا : هذا محال لا يمكن أبداً ! فقال لهم : إذا كان هذا محالاً في سفينة ، فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله ! ! وتحكى هذه الحكاية أيضاً عن غير أبي حنيفة .
فلو أقر رجل بتوحيد الربوبية ، الذي يقر به هؤلاء النظار ، ويفنى فيه كثير من أهل التصوف ، ويجعلونه غاية السالكين ، كما ذكره صاحب منازل السائرين وغيره ، وهو مع ذلك إن لم يعبد الله وحده ويتبرأ من عبادة ما سواه - كان مشركاً من جنس أمثاله من المشركين .
والقرآن مملوء من تقرير هذا التوحيد وبيانه وضرب الأمثال له . ومن ذلك أنه يقرر توحيد الربوبية ، ويبين أنه لا خالق إلا الله ، وأن ذلك مستلزم أن لا يعبد إلا الله ، فيجعل الأول دليلاً على الثاني ، إذ كانوا يسلمون [في] الأول وينازعون في الثاني ، فيبين لهم سبحانه أنكم إذا كنتم تعلمون أنه لا خالق إلا الله [وحده] ، وأنه هو الذي يأتي العباد بما ينفعهم ، ويدفع عنهم ما يضرهم ، لا شريك له في ذلك ، فلم تعبدون غيره ، وتجعلون معه آلهة أخرى ؟
كقوله تعالى : " قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون * أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون " الآيات . يقول الله تعالى في آخر كل آية : " أإله مع الله " أي أإله مع الله فعل هذا ؟ وهذا استفهام انكار ، يتضمن نفي ذلك ، وهم كانوا مقرين بأنه لم يفعل ذلك غير الله ، [فاحتج عليهم بذلك ، وليس المعنى أنه استفهام هل مع الله إله ، كما ظنه بعضهم ، لأن هذا المعنى لا يناسب سياق الكلام ، والقوم كانوا يجعلون مع الله] آلهة أخرى، كما قال تعالى . " أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد " ، وكانوا يقولون : "أجعل الآلهة إلها واحداً إن هذا لشيء عجاب" . لكنهم ما كانوا يقولون : أن معه إلها "جعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهاراً وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزاً" . بل هم مقرون بأن الله وحده فعل هذا ، وهكذا سائر الآيات . وكذلك قوله تعالى : "يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون" . وكذلك قوله في سورة الأنعام : "قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به" . وأمثال ذلك .
واذا كان توحيد الربوبية ، الذي يجعله هؤلاء النظار، ومن وافقهم من الصوفية هو الغاية في التوحيد - : داخلاً في التوحيد الذي جاءت به الرسل ، ونزلت به الكتب ، فليعلم أن دلائله متعددة ، كدلائل اثبات الصانع ودلائل صدق الرسول ، فإن العلم كلما كان الناس إليه أحوج كانت أدلته أظهر ، رحمة من الله بخلقه .
والقرآن قد ضرب الله للناس فيه من كل مثل ، وهي المقاييس العقلية المفيدة للمطالب الدينية ، لكن القرآن يبين الحق في الحكم والدليل ، فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ وما كان من المقدمات معلومة ضرورية متفقاً عليها ، استدل بها ، ولم يحتج إلى الاستدلال عليها .
والطريقة الصحيحة في البيان أن تحذف ، وهي طريقة [القرآن ، بخلاف ما يدعيه الجهال ، الذين يظنون أن القرآن ليس فيه طريقة] برهانية ، بخلاف ما قد يشتبه ويقع فيه نزاع ، فإنه يبينه ويدل عليه .
ولما كان الشرك في الربوبية معلوم الأمتناع عند الناس كلهم ، باعتبار اثبات خالقين متماثلين في الصفات والافعال ، وإنما ذهب بعض المشركين إلى أن ثم خالقاً خلق بعض العالم ، كما يقوله الثنوية في الظلمة ، وكما يقوله القدرية في أفعال الحيوان ، وكما يقوله الفلاسفه الدهرية في حركة الأفلاك أو حركات النفوس ، أو الأجسام الطبيعية ، فإن هؤلاء يثبتون أموراً محدثة بدون أحداث الله إياها ، فهم مشركون في بعض الربوبية ، وكثير من مشركي العرب وغيرهم قد يظن في آلهته شيئاً من نفع أوضر، بدون أن يخلق الله ذلك .
فلما كان هذا الشرك في الربوبية موجوداً في الناس ، بين القرآن بطلانه ، كما في قوله تعالى : "ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض" . فتأمل هذا البرهان الباهر ، بهذا اللفظ الوجيز الظاهر . فإن الإله الحق لا بد أن يكون خالقاً فاعلاً ، يوصل إلى عابده النفع ويدفع عنه الضر ، فلو كان معه سبحانه إله آخر يشركه في ملكه ، لكان له خلق وفعل ، وحينئذ فلا يرضى تلك الشركة ، بل أن قدر على قهر ذلك الشريك وتفرده بالملك والإلهية دونه فعل ، وإن لم يقدر على ذلك انفرد [بخلقه وذهب بذلك الخلق ، كما ينفرد ملوك الدنيا بعضهم عن بعض بملكه ، إذا لم يقدر المنفرد] منهم على قهر الآخر والعلو عليه . فلا بد من أحد ثلاثة آمور :
أما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه .
واما أن يعلو بعضهم على بعض .
واما أن يكونوا تحت قهر ملك واحد يتصرف فيهم كيف يشاء ، ولا يتصرفون فيه ، بل يكون وحده هو الإله ، وهم العبيد المربوبون المقهورون من كل وجه .
وانتظام أمر العالم كله واحكام أمره ، من أدل دليل على أن مدبره إله واحد ، وملك واحد ، ورب واحد ، لا إله للخلق غيره ، ولا رب لهم سواه . كما قد دل [دليل] التمانع على أن خالق العالم واحد ، لا رب غيره ولا إله سواه ، فذلك تمانع في الفعل والإيجاد ، وهذا تمانع في العبادة والإلهية . فكما يستحيل أن يكون للعالم ربان خالقان متكافئان ، كذلك يستحيل أن يكون [لهم] إلهان معبودان .
فالعلم بأن وجود العالم عن صانعين متماثلين ممتنع لذاته ، مستقر في الفطر معلوم بصريح العقل بطلانه ، فكذا تبطل إلهية اثنين . فالآية الكريمة موافقة لما ثبت واستقر في الفطر من توحيد الربوبية ، دالة مثبتة مستلزمة لتوحيد الإلهية .
وقريب من معنى هذه الآية قوله تعالى : "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" . وقد ظن طوائف أن هذا دليل التمانع الذي تقدم ذكره ، وهو أنه لو كان للعالم صانعان الخ ، وغفلوا عن مضمون الآية ، فإنه سبحانه أخبر أنه لو كان فيهما آلهة غيره ، ولم يقل أرباب .
وأيضاً فإن هذا إنما هو بعد وجودهما ، وأنه لو كان فيهما وهما موجودتان آلهة سواه لفسدتا .
وأيضا فإنه قال : (لفسدتا)، وهذا فساد بعد الوجود ، ولم يقل : لم يوجدا . ودلت الآية على أنه لا يجوز أن يكون فيهما آلهة متعددة ، بل لا يكون الإله إلا واحد ، وعلى أنه لا يجوز أن يكون هذا الإله الواحد إلا الله سبحانه وتعالى ، وأن فساد السموات والأرض يلزم من كون الآلهة فيهما متعددة ، ومن كون الإله الواحد غير الله وأنه لا صلاح لهما إلا بأن يكون الإله فيهما هو الله وحده لا غيره . فلو كان للعالم إلهان معبودان لفسد نظامه كله ، فإن قيامه إنما هو بالعدل ، وبه قامت السموات والارض .
وأظلم الظلم على الاطلاق الشرك ، وأعدل العدل التوحيد .
وتوحيد الإلهية متضمن لتوحيد الربوبية دون العكس . فمن لا يقدر على أن يخلق يكون عاجزاً ، والعاجز لا يصلح أن يكون إلها . قال تعالى : "أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون" . وقال تعالى : "أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون" . وقال تعالى : "قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً" .
وفيها للمتأخرين قولان : أحدهما : لا تخذوا سبيلاً الى مغالبته ، والثاني ، وهو الصحيح المنقول عن السلف ، كقتادة وغيره ، وهو الذي ذكره ابن جرير ولم يذكر غيره - : لاتخذوا سبيلاً بالتقرب اليه ، كقوله تعالى : " إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا " . وذلك أنه قال : "لو كان معه آلهة كما يقولون" وهم لم يقولوا : إن العالم [له] صانعان ، بل جعلوا معه آلهة اتخذوهم شفعاء ، وقالوا : "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" ، بخلاف الآية الأولى .
ابو عبد الله الزمزمي
|