الشريعة الإسلامية سبقت القوانين الوضعية في الاعتراف بالحق في الحياة الخاصة بما يزيد على ثلاثة عشر قرنا
عرض: مرگز الإعلام العربي
لما كانت الشريعة الإسلامية عالمية، وأفصحت عن عالميتها منذ لحظاتها الأولى فإنها قادرة على استيعاب تطورات العصر وتقدمه، وذلك لمرونتها وقدرتها على التفاعل، ولعل هذا ما يتضح جليا عند المقارنة بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعى في مجال احترام الخصوصية أو الحياة الخاصة للإنسان، حيث نجد تفرد وتقدم الشريعة الإسلامية بصورة عملية وواقعية على الفكر القانوني المعاصر، ومن أجل إيضاح تلك الحقيقة يحاول المؤلف الإلمام بحق الخصوصية من جميع جوانبه القانونية والشرعية، وذلك عن طريق تناول الحق في الخصوصية في الفقه الإسلامي، من حيث الإشارة إلى مفهومه اللغوى والاصطلاحى وتطبيقات هذا الحق في الفقه الإسلامي.
ثم يتناول المؤلف الحق في الخصوصية في القانون المقارن، من حيث مدلوله وأصله التاريخى ومدى قبول أو رفض القانون لتلك الفكرة بعد ذلك يتطرق المؤلف إلى تطبيقات الخصوصية في القانون المقارن، وبيان مدى تفرد الشريعة الإسلامية، خاصة في مجال حرمة المسكن واستراق السمع والبصر أو جريمة إفشاء الأسرار أو التهديد بها، وكذلك في مجال استعمال الوسائل المؤثرة في خصوصية الفرد، خاصة في حالة استعمال القسوة في استجواب المتهم أو استخدام جهاز كشف الكذب أو استعمال العقاقير المخدرة... إلخ، وذلك عبر أربعة محاور رئيسة:
أولا - حق الحياة الخاصة في الفقه الإسلامي (مدلولات ومفاهيم)
بادئ ذى بدء يحاول المؤلف الإشارة إلى المدلول اللغوى والاصطلاحي للحق في الخصوصية:
أ - الحق في الخصوصية لغة: يطلق الحق في اللغة العربية على معان عديدة منها:
- نقيض الباطل، كما في قوله تعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهقِ} [الأنبياء: 18]
- كونه اسما من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته، كما في قوله تعالى: {ولو اتبع الحق أهواءهم} [المؤمنون: 71]، ولقد ذكر ثعلب بأن الحق هنا الله (عز وجل).
- الحظ والنصيب، كما في قوله تعالى: {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم} [الذاريات: 19].
- الواجب، ومنه قوله تعالى: {فحق علينا قول ربنا} [الصافات: 31] ، أى وجب، ويطلق الحق أيضا الموجود والثابت الذي لا يجوز إنكاره.
والخصوصية في لغة العرب تعنى: حالة الخصوص، يقال: خصه بالشيء يخصه خصا، وخصوصا وخصوصية بالفتح والضم، والفتح أفصح، والخصوص نقيض العموم، يقال: اختص فلان بالأمر، وتخصص له إذا انفرد به، واختصه.. أفرده به دون غيره، وتخصص له: إذا انفرد، والخاصة خلاف العامة أو من تخصه لنفسك.
وبإضافة لفظة (حق) إلى (الخصوصية) يمكن أن نتصور معنى هذه الإضافة من الناحية اللغوية بأنها: حق الشخص في أن ينفرد بأمور لنفسه، أو خاصته، على ألا تتخذ هذه الأشياء صفة العموم.
2 - تعريف الحق اصطلاحا: إن كلمة الحق في الفقه الإسلامي تستعمل للدلالة على معان متعددة تختلف تبعا للمصالح التي قررتها هذه الحقوق (عامة وخاصة ومشتركة) وتأسيسا على هذا اتجه علماء الأصول إلى تقسيم الحقوق إلى أربعة أقسام:
حقوق الله الخالصة: ويقصد بها ما يتعلق به النفع العام للناس جمعيا، ولهذا نسب إلى رب الناس جميعا لعظم خطره وشموله نفعه، ومن هنا يتضح أن حق الله بهذا المفهوم يعنى حق المجتمع، وقد ذهب فريق من الأصوليين إلى تعريف حق الله تعالى بأنه: (متعلق أمره ونهيه وعبادته)، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56] ، فيصبح كل تكليف شرعى هو حق الله، كما تقتضيه هذه الآية، ومن هنا فإن حقوق الله الخالصة تتمثل في العبادات المحضة (كالإيمان بالله، والصلاة والزكاة...)، والعبادات (التي فيها معنى المؤنة أى الضريبة مثل صدقة الفطر والضرائب على الأرض العشرية والخراج، والعقوبات الكاملة، وهى الحدود أو القاصرة (مثل حرمان القاتل من الميراث)، أو الكفارات وتوزيع الغنائم).
حقوق خالصة للعبد: ويقصد بها تحقيق مصلحة خاصة للفرد، ويتمثل هذا النوع في سائر الحقوق المالية للأفراد كالأثمان والديون وضمان المتلفات.
ما اجتمع فيه الحقان؛ وكان حق الله فيه هو الغالب كحد القذف، وهذا الحق يضاف إلى الله تعالى؛ لأن حق العبد غير منظور إليه.
أو ما اجتمع فيه الحقان وحق العبد هو الغالب كالقصاص من القاتل العمد، وعلى ضوء هذا التقسيم للحقوق إلى حق الله وحق للعبد هناك آثار يشير المؤلف إليها؛ لأنه على ضوئها يمكن التعرف إلى أى مدى يعرف الفقهاء حدود مفهوم الحق، وتتمثل هذه الآثار في:
الإسقاط (فكل حق من حقوق الله لا يجوز للعبد إسقاطه على عكس حقوق الفرد، أما إذا كان الحق دائرا بين الله والعبد، فلا يجوز للعبد إسقاطه إذا ترتب على ذلك إسقاط حق الله)، إضافة إلى ذلك فإن حقوق الله تعالى أو المغلب فيها حق الله لا تقبل الانتقال من المورث إلى الوارث، إضافة إلى أنها تعطي كل مسلم مكنة رفع الدعوى فيها، وذلك باعتباره فردا في المجتمع الإسلامي ومكلف بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
وعلى ضوء بيان الأصوليين لأقسام الحق والآثار المترتبة على هذا التقسيم يتبين أن الفقهاء لم يضعوا مفهوما محددا للحق، وإنما اكتفوا بما يحمله من دلالات لغوية، ولعل ما يؤكد ذلك إطلاق الفقهاء للحق على كل ما هو ثابت ثبوتا شرعيا أى بحكم الشارع وهم في ذلك لم يلتزموا معنى اصطلاحيا خاصا للحق.
ومن هنا يشير المؤلف إلى أنه سواء اتخذ الفقهاء تعاريف حاسمة لمفهوم الحق أم لا، فإن من المعروف يقينا أن الفقهاء لا في القديم ولا في الحديث قد استعملوا لفظة - الحق في الخصوصية أو الحياة الخاصة وعدم استعمال الفقه لهذا المصطلح لا يعنى أن الشريعة الإسلامية لم تعترف بهذا النوع من الحق، بل الأمر على خلاف ذلك لأن الشريعة الإسلامية قد اعترفت بهذا الحق ابتداء وعرفت له تطبيقات عديدة، ولكنه قد انضوى تحت مفهوم الحق عموما في هذا الفقه.
ويرى المؤلف أنه من المفضل تعريف الحق في الخصوصية تعريفا يعتمد على الحدود المرسومة للفرد، ومن هنا يمكن القول: إن الحق في الخصوصية هو (حق الفرد أن يعيش متمتعا باحترام أشياء خاصة يطويها عن غيره في العادة، وذلك بغل يد السلطة العامة، وكذلك الأفراد عن التدخل أو التعرض لهذه الأشياء إلا في الأحوال التي تقتضيها المصلحة العامة، وذلك بإذن الشارع)، ويستطرد المؤلف بأن الحق في الخصوصية في بعض جوانبه يلتقي مع الحق في الحرية، ذلك لأن الحرية في الفقه الإسلامي تعني: أن يكون الفرد قادرا على التصرف في شؤون نفسه، وفى كل ما يتعلق بذاته آمنا من الاعتداء على نفسه أو عرضه أو ماله أو أى حق من حقوقه.
ثانيا - تطبيقات الحق في الخصوصية في الفقه الإسلامي
ولعل من أبرز تطبيقات الحق في الخصوصية في الفقه الإسلامي حق الفرد في حرمة مسكنه والعيش فيه آمنا من تطفل الآخرين عليه، وهذه الحرمة قد تقررت في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خيرِ لكم لعلكم تذكرون (27) فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليمِ (28) ليس عليكم جناحِ أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاعِ لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون} [النور: 27 - 29] ، فهذه الآية تقرر حرمة المسكن وحق الفرد في أن يتمتع وهو في مسكنه بهذه الحرمة بعيدا عن تدخل الآخرين وفضولهم، يقول الماوردى: وأما ما ينكر من الحقوق المشتركة بين حقوق الله وحقوق الآدميين، وكالمنع من الإشراف على منازل الناس، ولا يلزم من علو بنائه أن يستر سطحه، وإنما يلزم ألا يشرف على غيره، ولذلك اعتبر الفقه الإسلامي وجود شخص في مسكن الغير دون أن يتضح قصده من الدخول، ودون أن يكون هذا الدخول برضاء صاحب الحق جريمة موجبة للتعزير، ومما لا شك فيه أن حرمة المسكن تعتبر من أبرز تطبيقات هذا الحق في القانون المعاصر.
ومن تطبيقات هذا الحق النهى عن التطفل على حياة الأفراد بالمسارقة البصرية واقتحام المساكن بالنظر والاطلاع على ما يطويه الفرد عن غيره من أسرار في العادة، وقد قررت بالأحاديث الكثيرة الواردة عن النبى صلى الله عليه وسلم ، ومن ذلك قوله (عليه الصلاة والسلام): (من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم ففقؤوا عينه، فلا دية ولا قصاص)، وفى الصحيحين من حديث الزهرى، أنه (اطلع رجل في حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه مِدرى (بكسر الميم وإسكان الدال المهملة، وهى حديدة يسوى بها الشعر وقيل هو شبه المشط) يحك بها رأسه، فقال: لو أعلم أنك تنظرنى لطعنت بها في عينك إنما جعل الاستئذان من أجل النظر).
وهذه النصوص تقر حق الفرد في مقاومة الاعتداء الواقع على حياته الخاصة ودفعه؛ لأنه اعتداء على حقه في الأمن والاحتفاظ بأسراره.
ومن تطبيقات هذا الحق (الحق في الخصوصية) النهى عن التجسس على الغير وتتبع عورات الآخرين وتعريتهم بأى وسيلة من وسائل التعرية، والذي قرره قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثمِ ولا تجسسوا} [الحجرات: 12] ، وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم قوله: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا).
وقد نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن تتبع عورات الناس، فقد روى عنه أنه قال لمعاوية (رضى الله عنه): (إنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم)، وقد فسر قتادة التجسس بأنه: تتبع، أو ابتغاء عيوب الآخرين للتطلع على أسرارهم، إضافة إلى ذلك وبالاستناد إلى هذه النصوص ذهب الفقهاء إلى القول بتحريم التجسس والتحسس أو التفتيش إلا في الأحوال المرخص بها شرعا، وتحريم التجسس والتفتيش قد ترتب عليه أنه ليس لأي إنسان فردا كان أو حاكما أن يسترق السمع أو أن يتحسس ثوب الغير ليعرف ما يخفيه، والأحاديث في النهى عن التجسس وتتبع العورات كثيرة جدا ولها تطبيقات ووقائع عديدة جرت مع الخلفاء الراشدين.
إضافة إلى ذلك يشير المؤلف إلى أن من تطبيقات هذا الحق حفظ الأسرار وعدم إفشائها، ولهذه الحرمة قدسية في الشريعة الإسلامية فقد روي عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من حدث في مجلس بحديث فالتفت فهى أمانة)، وروي عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (المجالس بالأمانة إلا ثلاثة: مجالس ما سفك فيه دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطع فيه مال بغير حق).
ومن تطبيقات هذا النوع من الحق (حفظ الأسرار وعدم إفشائها) حق كل من الزوجين على الآخر ألا ينقل أسراره ولا يفشيها والأصل في ذلك ما روي عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن من شر الناس يوم القيامة الرجل يفضى إلى امرأته، أو تفضى إليه ثم ينشر سرها).
ومن تطبيقات (الحق في الخصوصية) أيضا حق الفرد في المحافظة على سمعته واعتباره ومعلوم أن الشريعة الإسلامية تعاقب على جريمة القذف في الأحوال التي يكون فيها رمي المجنى عليه من جنس ما يوجب الحد، أما إذا قام الجانى بتوجيه كلمات للمجنى عليه لا تصل إلى حد القذف، ولا من جنس ما يجب به القذف، ولكنه يعتبر إيذاء بأقوال أخرى تؤذى المجنى عليه وتمس كرامته مثل رميه بالفسق والزندقة ونسبته إلى غير الإسلام، أو رميه بالغباء والبلادة وإيواء اللصوص، ونحو ذلك فإن القائل في هذه الحالة يكون قد آذى المجنى عليه، ولما كان الشارع لم يحدد عقوبة لهذه الجريمة، فإن العقوبة تكون تعزيرية.
يضاف إلى ما تقدم فإن الشريعة الإسلامية قد حمت خصوصيات الفرد من الناحية الإجرائية، وذلك باعتبار هذه الإجراءات جزءا مكملا للعقوبات في الفقه الإسلامي، ويتمثل ذلك (في حماية سرية المراسلات، وحماية الفرد من استعمال القسوة والعنف في الاستجواب، حماية الفرد من التعسف في التفتيش، حماية الفرد من الوسائل التي تؤثر على عقل الإنسان أو تكشف عن دروب الشخصية).
ومن خلال هذا العرض السابق يتضح أن الشريعة الإسلامية قد اعترفت بحق الخصوصية منذ اكتمال الرسالة، بل إن هذا الحق يمثل عنصرا أساسيا في منهجيتها، ومن الآداب العامة التي تحرص الشريعة على ضمانها وحمايتها، وأن الشريعة قد عرفت تطبيقات عديدة له، أما عدم استعمال الفقه الإسلامي للفظة (الحق في الخصوصية، أو حق الشخصية)، فيرجع إلى اعتبارات عديدة لعل في مقدمتها هو إعطاء لفظة الحق تلك الدلالات الواسعة، مما جعل التفرقة عسيرة بعض الشيء بين حق وآخر، هذا فضلا عن أن النظرية الفقهية قد اكتملت وبلغت قمة نضوجها في القرنين الثانى والثالث الهجريين، أى في وقت لم تكن فيه تقنية متطورة تفرض على الفقيه توليد النصوص والاستنباط منها في خصوص هذا النوع من الحق ولم يضطروا إلى الحديث عنه ولم تدفعهم إليه حاجة، ولكن مع هذا نجد الكثير من النصوص في القرآن والسنة وبعض الآراء الفقهية التي ترس دعائم الحق في الخصوصية وتعترف بها.
ثالثا - الحق في الخصوصية والقانون
هناك جدل دائر بين الفقهاء حول عدم وضع تعريف موحد للحق في الخصوصية وعلة ذلك واتجاهات الفقهاء في ذلك وأصل هذا الحق ومدى قبول أو رفض فكرة الخصوصية في القانون المقارن في هذا المجال.
1 - مدلول الحق في الخصوصية: الحق في الخصوصية لا يوجد له تعريف واحد محل اتفاق، سواء على مستوى الفقه أو القضاء أو التشريع أم على مستوى إقليمى أو دولى، وهذا ما استقر عليه أغلب كتاب القانون، فهم متفقون على أن مفهوم الخصوصية من الصعب تعريفه، وهذا يرجع إلى سببين:
- أن لفظة الخصوصية قد يكون لها مضمون انفعالى جوهرى في كثير من الأشياء التي نشعر نحن بالحاجة إلى الحفاظ عليها بعيدا عن معرفة الآخرين واطلاعهم، أو الأشياء التي تتعلق بالسلوك، والتي قد تكون في حد ذاتها غير منطقية، وهذا يختلف من شخص إلى آخر فقد تبدو الحالة مما تنضوى تحت نطاق الخصوصية بالنسبة لفرد معين، لكنها قد لا تكون على هذا النحو بالنسبة لفرد آخر، وذلك تبعا لكون الفرد من أولئك الذين يكتمون خصوصياتهم أو من الذين يبدون صفحاتهم للغير.
- أن مجال الخصوصية محكوم بقيم وقواعد السلوك والقانون الأخلاقى لكل مجتمع وتبعا لهذا تتشكل نفسية المجتمع، وتتكون طباؤعه، ولا شك أن القيم الاجتماعية تختلف من مجتمع لآخر، ويترتب على ذلك اختلاف مفهوم الخصوصية من بلد إلى آخر، بل وفى البلد الواحد، فمثلا الحق في الخصوصية لقيمة اجتماعية يقوم في مواجهته في الدول الديموقراطية الحق في الإعلام وممارسة حريات وحقوق أخرى محمية، فحرية الصحافة مثلا تجد إزاءها وبقدر متساو من الأهمية قوانين لحماية المواطنين في مجتمع ديموقراطى يؤمن في الوقت ذاته بحرية تدفق المعلومات، وبما يحول دون الفساد الحكومى؛ ولذلك فإن أكبر اختبار للتوازن بين رعاية الخصوصية من جهة وبين التزامات الدولة بشأن الحقوق الأخرى من جهة ثانية هو في استمرار حفظ التوازن بين الخصوصية والقيم الدستورية الأخرى، ومن هنا تتسع دائرة الخصوصية وتضيق تبعا لاختلاف المجتمعات في مدى الحرية التي يتمتع بها الأفراد أو المؤسسات الإعلامية ومدى سلطان الدول في التدخل لحفظ التوازن بين هذه الحقوق.
وعلى الرغم من هذا فإنه كانت هناك محاولات عديدة لتعريف الخصوصية، خاصة من قبل فقهاء القانون العام، ويمكن رصدها رغم كثرتها وتشعبها في اتجاهات ثلاثة:
الاتجاه الأول: وهو الاتجاه الذي ذهب إليه الفقه الأمريكى وجانب من الفقه الفرنسى، وهو اتجاه لا يعطى تعريفا محددا للخصوصية، وإنما يحاول تبرير الاعتراف بهذا الحق وضرورة الحفاظ عليه، ويكاد يكون هناك إجماع بين أنصار هذا الاتجاه على أن حق الفرد في الخصوصية (هو حقه في العيش في عزلة ودون مضايقة من أحد بسبب هذه العزلة)، أو ما يطلق عليه حق الفرد في الخلوة.
ولكن يرى المؤلف بأنه يلاحظ على هذا الاتجاه أنه يذهب إلى إطلاق الخلوة أو العزلة على الحق في الخصوصية، وهى معان متقاربة وفضفاضة وغامضة في تركيبها إضافة إلى عدم قدرتها على وضع حدود منطقية لهذا النوع من الحق، فهى لا تطرح مفهوما محددا للخصوصية بقدر ما تطرح من مبررات ومسوغات للحياة الخاصة وترصد الظواهر النفسية للإنسان، وحاجته للانسحاب والعيش في خلوة، وهى بهذا لا تقدم معيارا قانونيا حاسما، وعلى الرغم من ذلك فإن هذا الاتجاه يقدم ميزة خاصة في تحديد معنى الخصوصية - وتتمثل وفقا لرأى المؤلف - في أن الخصوصية تفترض مسبقا عدم العلانية، وهذا ما تشير إليه وتؤيده فكرة الخلوة أو العزلة.
الاتجاه الثاني: وهو الاتجاه الذي يعتمد على التعداد غالبا في تعريف الخصوصية، فعلى سبيل المثال نجد البروفيسور ALANWESTIN قد عرف الخصوصية بأنها (مطلب للأفراد والجماعات والهيئات ليقرروا بأنفسهم إلى أى مدى تتاح المعلومات عنهم، والتي تنتقل إلى الآخرين)، ثم يحلل مفهوم الخصوصية إلى أربعة محاور: (الخلوة، الألفة، الغفلية، التحفظ)، وهذا التعريف، وإن كان يغطي بشكل أفضل ما تعنيه الخصوصية (عن الاتجاه الأول) إلا أنه لا يغطي على الإطلاق كل ما يتصل بها.
الاتجاه الثالث: وهو الاتجاه الذي يفسر الحياة الخاصة أو الخصوصية بأنها على عكس الحياة العامة، وهذا الاتجاه وفقا لرأى المؤلف لا يضع حدودا فاصلة بين الحياة العامة والحياة الخاصة.
وعلى ضوء تلك الاتجاهات يرى المؤلف ضرورة تعريف الخصوصية وفقا للتقاليد والعادات الاجتماعية لكل مجتمع ومستوى التقدم العلمى، على أن يتسم هذا التعريف بالشمولية والمرونة، وهذا بكل تأكيد يمنح القانون قدرا كافيا من المرونة للتأقلم مع معطيات الواقع الاجتماعى باستمرار.
2 - أصل الحق في الخصوصية: يشير المؤلف إلى أن فكرة الخصوصية تمتد جذورها إلى العهد الأعظم (الماجنا كارتا)، إضافة إلى أن ملامح الخصوصية تبدو في التعديلات الدستورية العشرة الأولى الواردة على الدستور الاتحادى للولايات المتحدة الأمريكية، والتي يطلق عليها (وثيقة الحقوق) إلى جانب ذلك نجد أن فرنسا تتضمن تشريعاتها نصوصا تستهدف حماية الحياة الخاصة، وذلك في فترة مبكرة سابقة على الولايات المتحدة الأمريكية، فهناك م/1 من قانون 18 من مايو سنة 1868 التي يحظر فيها إفشاء الحقائق الخاصة، والتي تتعلق بالحياة الخاصة، إضافة إلى أن المحاكم قد عالجت الحق في الخصوصية تأسيسا على حق الملكية أو حق بموجب عقد أو خيانة أمانة أو خيانة الثقة أو على أساس التشهير.
3 - الخصوصية بين الرفض والقبول: هناك اتجاهان في ذلك:
اتجاه أول رافض للخصوصية، وهو ذلك المستقر في القانون الإنجليزى ومحكمة النقض الإيطالية وبعض الأحكام التي أصدرتها المحاكم الأمريكية في مطلع هذا القرن، وحجة هذا الاتجاه أن فكرة الخصوصية لا قيمة لها، إضافة إلى أن مفهوم انتهاك الخصوصية فضفاض يصعب معه إيجاد نص تشريعى يتناوله، وبالتالى ليست له حدود معينة، ومن هنا يصعب إيجاد تعريف موحد له، وكذلك يصعب تنظيم هذا الحق من الناحية القانونية.
وفى هذا الإطار يشير المؤلف إلى أنه رغم عدم اعتراف القانون الإنجليزى صراحة بفكرة الحق في الخصوصية، وعدم قبول أى دعاوى للخصوصية كدعاوى مستقلة للمطالبة بالحق المدنى إلا أن القانون الإنجليزى وضع العديد من الوسائل لحماية الخصوصية، ومنها توسعة في فكرة الإخلال بالثقة التعاقدية، وذلك لتمتد مظلته للعديد من الحالات التي يكون فيها الاعتداء واقعا على الخصوصية، إضافة إلى اعتبار التشهير، خاصة في قضايا النشر والمضايقات في علاقات الجوار وتعدي حدود الغير وانتهاك حرمة ملكيته تدخل في نطاق الحماية القانونية للخصوصية.
الاتجاه الثانى: هو الاتجاه المعترف بالخصوصية، والذي يمثل اتجاها واسعا في القانون المقارن، وخاصة في القضاء الأمريكى والفرنسى، إضافة إلى اعتراف المنظمات الدولية والدساتير العربية بذلك، وخاصة الدستور المصرى (م 45/ 1971)، والدستور العراقى المؤقت (عام 1970).
رابعا - تطبيقات الخصوصية في القانون المقارن ومقارنتها بالشر يعة الإسلامية
في هذا الإطار يتناول المؤلف حرمة المسكن وجريمة استراق السمع وإفشاء الأسرار أو التهديد بها، وفي استعمال الوسائل المؤثرة على خصوصية الفرد في الإثبات.
أ - حرمة المسكن في القانون الأنجلو أمريكى: من المعلوم أن القانون العام الإنجليزى قد أثر إلى حد ما في قانون الولايات المتحدة الأمريكية، بل يمكن القول: إن القانون الأمريكى هو امتداد للقانون العام الإنجليزى، إذ إن الأخير يعتبر مصدره وأصله، وقد ترتب على هذا أن حرمة المسكن وأحكام التفتيش قد تشابهت في كلا القانونين.
في القانون الإنجليزى نجد أن المسكن يحظى بأهمية كبيرة، ولعل هذا ما تبلور جيدا في المقولة الإنجليزية (إن منزل الرجل الإنجليزى هو قلعته)، ووفقا لما استقر عليه قانون إنجلترا لا يستطيع البوليس أن يفتش المساكن الخاصة، ولو كان ذلك من أجل متابعة التحقيق الجنائى المتصل بجريمة ما إلا بناء على ترخيص قضائى بالتفتيش أو الحصول على إذن صاحب المسكن للدخول والتفتيش، وإن كانت هناك حالات تجيز التفتيش بدون إذن قضائى ودون موافقة صاحب المسكن، وذلك في أحوال الضرورة.
أما في الولايات المتحدة فيتمتع المسكن بحرمة خاصة، وذلك منذ التعديل الدستورى الرابع (1791)، والذي نص صراحة على حرمة المسكن ضد التفتيش التعسفى، وبصفة عامة يتم تنظيم هذه الحرمة التعديلان الدستوريان الرابع والرابع عشر، ودستور الولايات المتحدة المعدل (1963)، وكمبدأ عام لا يجوز تفتيش المنازل بدون ترخيص قضائى، وإن كان من الممكن إجراء التفتيش بدون إذن قضائى إذا كان الإجراء معقولا، وأن يكون التفتيش معاصرا لواقعة قبض قانوني، إضافة إلى حالة الضرورة، وانطلاقا من ذلك يؤكد المؤلف على أن حرمة المسكن في الشريعة الإسلامية تستمد جذورها من فكرة اجتماعية، وهى الحفاظ على الآداب والأمن والنظام ورعاية مصالح الأفراد وشخصية أسرارهم، ولقد استطاع الإسلام أن يرسى قواعد العدالة والحرية في مرحلة مبكرة من تاريخ البشرية، إضافة إلى أن الفقه الإسلامي قد اشترط المعقولية لدخول مسكن الغير وتفتيشه، وهذا ما توصل إليه أخيرا القضاء الأمريكى الحديث مسكن الغير وتفتيشه، وهذا ما توصل إليه أخيرا القضاء الأمريكى الحديث.
ب - جريمة استراق السمع والبصر: يميل الفقه والقضاء والتشريع إلى شجب استراق السمع والتصنت باستخدام الأجهزة الفنية الحديثة والميل واضح في حظر استخدام الوسائل الفنية للمراقبة أو التقاط صور الأشخاص في مساكنهم، وذلك من أجل زيادة حماية المواطنين وحقوقهم الشخصية، وذلك هو المنهج الذي اتبعته الجمعية الوطنية الفرنسية عام 1970، وقانون العقوبات المصرى (م 309 مكرر/ 37 لسنة 1972)، وفى الولايات المتحدة صدر قانون الاتصالات الفيدرالى ليحظر التسجيل على الأشرطة للأحاديث التليفونية، وعلى ضوء ذلك يقرر المؤلف بأن أول ميزة تمتاز بها الشريعة في نطاق جريمة استراق السمع والبصر أنها لم تحدد العقوبة لهذا النوع من الجرائم، كما أنها تركت تكييفها لولي الأمر حسب المصلحة، وما يفرزه العصر من تطور، إضافة إلى أن هناك ميزة أخرى تمتاز بها الشريعة الإسلامية على الفكر القانوني هي أنها اعتبرت استراق السمع أو البصر جريمة موجبة للتعزير بصرف النظر عن الوسيلة التي تتم بها الجريمتان (العين المجردة والأذن أو الوسائل العلمية الحديثة)، هذا بخلاف الفكر القانوني الحديث، حيث ذهب جانب من القانون إلى قصر التجريم على التلصص الذي يتم بالوسائل العلمية دون غيرها، وتلك نظرة لا تتسم بالواقعية وتبدو مجافية للمنطق.
ج - جريمة إفشاء الأسرار أو التهديد بذلك: هناك صلة وثيقة بين الإفشاء والتهديد، فالإفشاء هو القيام بإذاعة ما هو سر لمن ليس لهم حق في الاطلاع عليه أو أن تتاح الفرصة لهذا عن عمد، وعنصر العمد في الإفشاء ضرورى جدا مثلا قد تتوافر أركان الخطأ القانوني إذا كان الإفشاء قد جاء نتيجة التسرب والشيوع أو الغفلة أو الإهمال أو التقصير، ولكن الجريمتين تشتركان في كيفية إثبات القصد والنية من التصرف.
وغالبية الفقه تدرج جريمة الإفشاء أو التهديد في الباب الخاص بالجرائم الخاصة بحرية الإنسان وحرمته كما في قانون العقوبات المصرى رقم (37/ 1972 المادتين 327، 309 مكرر/ أ، إضافة إلى أن القانون الإيطالى يدرج هذه الجريمة تحت الجرائم الماسة بالحرية الشخصية (م 612)، وكذلك (م 260 من قانون العقوبات الدنماركى، م 430 - 432 من قانون العقوبات العراقى)، أما القانون الأنجلو أمريكى فهذا النوع من الجرائم ينتمي إلى الجرائم التي تمس العدالة والنظام، وفى هذا الإطار يشير المؤلف إلى أن التهديد بإفشاء أسرار الحياة الخاصة يدخل ضمن الإكراه الأدبي في الفقه الإسلامي، كما يتحقق معه الإكراه؛ لأنه ينطوي على أذى معنوي يلحق صاحب السر.
4 - استعمال الوسائل المؤثرة في خصوصية الفرد (مقارنة بين القانون المقارن والشريعة الإسلامية).
أ - استعمال القسوة في استجواب المتهم: الأصل في الشريعة الإسلامية أن الفقه الإسلامي في جملته يتجه إلى عدم الأخذ بموجب الإقرار الصادر تحت تأثير الإكراه إذا لم تصاحبه قرنية تعتمد الإقرار، وإن كان جانبا من الفقه الإسلامي قد ذهب إلى جواز ضرب المتهم وتعذيبه إذا كان معروفا بالفجور، وإن كان المؤلف يرى عدم شرعية هذا الإجراء ابتداء؛ لأن القيمة التدليلية للإقرار في الفقه الإسلامي هي أن يصدر بملء اختيار المقر، وهذا غير متوافر، ولأن استعمال القسوة يتعارض ومبدأ البراءة الأصلية ولا يتفق وإقامة خصومة عادلة.
أما في القانون الفرنسي فيكاد يكون هناك إجماع على أن إجراء التجارب على المتهم يسمح به عند استجواب المتهمين، وذلك متى كان ذلك لا يشكل اعتداء على جسده لا يمس حقا من حقوقه أو يسبب خدشا لكرامته، وهو ما يتبناه القانون الأمريكى والإنجليزى.
ب - استعمال جهاز كشف الكذب: نجد أنه وفقا لتطبيقات القضاء الإسلامي نجد أن الفراسة قديما تشبه جهاز كشف الكذب؛ لأن كليهما وسيلة لاكتشاف الجرائم، ولكن جهاز كشف الكذب يتعارض مع الأصل الشرعي، وهو أن المسلم صادق ومؤتمن على أقواله ويتعارض مع إقامة خصومة عادلة يتيح فيها المجال للمدعى عليه في الدفاع عن نفسه، هذا فضلا عن أننا مأمورون بالحكم بالظاهر، وذلك وفقا لما درج عليه الفقهاء من العمل بالظاهر، حين قالوا: إنما نحكم بالظواهر والله يتولى السرائر، ولا شك أن استخدام هذا الجهاز يقتحم تلك السرائر.
أما القانون الفرنسي: فنجد أن الاتجاه الغالب هو عدم جواز استخدام هذه الوسيلة؛ لأن النتائج التي يتوصل إليها من خلال هذا الجهاز لا يختلف عما يتوصل إليه عن طريق التعذيب، إضافة إلى أن هذه الوسيلة تعتبر قيدا على حقوق الدفاع، أما في الولايات المتحدة فلقد تردد القضاء في ذلك ما بين عدم قبول الاعترافات الناجمة عن جهاز كاشف الكذب؛ لأنها تنطوي على إكراه معنوي، ولكن الأمر استقر في النهاية على جواز إخضاع الشخص للتجربة إذا ما تمت برضاء الشخص واختياره.
ج - استعمال العقاقير المخدرة: إن الأصل في الفقه الإسلامي هو أن استخدام العقاقير المخدرة في الوصول إلى اعتراف المتهم غير مشروعة، وذلك لقيام النصوص على تحريم كل مسكر، وما يؤدى إلى زوال العقل، فضلا على أن ذلك يعتبر نوعا من التعذيب للمتهم وممارسته لا تنسجم مع منهجية الإسلام وروحه في صيانة كرامة الإنسان وحفظ آدميته.
أما في القانون الفرنسي: فيكاد يجمع الفقه على أن استعمال هذه الوسيلة يشكل اعتداء على حرية الإنسان في التعبير عن إرادته والدفاع عن نفسه، وفى هذا انهيار لأساس قيام الاعتراف القانوني، وبالتالي يجب استبعاده باعتباره إجراء يتعارض مع الحقوق التي قررتها مبادئ الثورة الفرنسية، وجاءت بها (م1، 5) من إعلان حقوق الإنسان، ويتفق القضاء الفرنسى مع الفقه في هذا الاتجاه، حيث حرم استعمال المخدر واللجوء إليه أثناء التحقيق ولو طلب المتهم ذلك، أما في الولايات المتحدة الأمريكية، فلقد اتجه القضاء إلى إنكار كل قيمة قانونية لتلك الأقوال.
د - التسجيل الصوتى وأجهزة الإنصات وفتح المراسلات البريدية ومراقبة المكالمات الهاتفية، أما عن عملية استعمال التسجيل الصوتي وأجهزة الإنصات فلقد ذهب الفقهاء إلى أنه لا مانع من ممارسة هذا الإجراء، وذلك وفقا للضوابط الشرعية ووضع الضمانات الكافية مع ملاحظة عدم الأخذ بموجب هذه الشهادة كدليل مثبت على الأفراد إلا إذا كانت مقترنة بالمعاينة، إضافة إلى جواز فتح المراسلات متى ظهرت الريبة وحامت الشبهات حول الخطاب المرسل، وإن كان هذا الإجراء منوط بحالة الضرورة ومتوقف على إذن القاضى، وكذلك الأمر بالنسبة للمكالمات الهاتفية.
أما الفقه والقضاء الفرنسي والأمريكي فلقد كان هناك ميل لاعتبار مراقبة المكالمات الهاتفية عملا غير مشروع، وكذلك الأمر بالنسبة للتسجيل الصوتي، وإن كان ذلك يعتبر قرينة تضم إلى عناصر الإثبات، إضافة إلى أن هناك إجماعا على عدم جواز ضبط الرسائل إذا لم يكن المتهم طرفا فيها وعدم وجود سبب معقول.
|