الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..
فإنَّ مِن الصواعقِ التي تقرَع المسامعَ، والفواجعِ التي تقضُّ المضاجعَ موتَ العلماء الربانيِّين الذين هم ورثةُ الأنبياء، ومثلهم كالنجوم في السماءِ يُهتَدَى بها في ظلماتِ البرّ والبحر، فهم حملةُ الشريعة وحماة الدّين، حياتُهم غنيمَة، وموتهم مُصيبة، بهم يُحفَظ الدين، ويُعْرَف الحلال من الحرام، يَنفون عن دين الله انتحالَ المبطلين، وتأويلَ الجاهلين.
وقد بُليت أمَّتنا في السنوات الأخيرة بتتابُع موتِ العلماء، حيث انفرَط عِقدهم، وتوالت حلَقاتهم، فلا يكاد يرقأ لنا دَمعٌ إلَّا ونُفجَع برحيل أحدِ أعلامنا، فيعتصر الفؤاد كمدًا لفَقدهم، ويهتزُّ الكيان وَجْدًا على رحيلهم.
وإنَّ موتَ العلَماء فاجعةٌ عظيمة، وقاصمة كبيرة؛ فقد بدَأت مصابيح الأمّة تنطفِئ واحدةً تلوَ الأخرى، ونجومهم أخذَت في الأفول تترَى، وإنَّ مِن علامات الساعة ذهابَ العِلم، وكثرةَ الجهل، وذهابُ العلم إنما يكون بذهابِ أهله، ففي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إنَّ الله تعالى لا يقبِض العلم انتزاعًا ينتزعه من العلماء، لكن يقبض العلم بقبض العلماء...)) البخاري: كتاب العلم، ومسلم: كتاب العلم.
وقد أُصِبْنا في يوم الثلاثاء 19/6/1431هـ بمصابٍ جلَل، ورُزِئنا بخسارةٍ فادِحة، عِندما نُعِي إلينا العلامّة التقيّ النقيّ الخفِيّ عبد الله بن عبد الرحمن ابن غديّان عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، فهزَّني ذلك النّبأ الأليم، وانقضَّ عليَّ حزنٌ عَظيم، وعجزت الكلماتُ في وصف الأشجان، ولا تُجدي العبارات في التعبير عن العَبَرات، بل ولا تنصاع الجُمَل لتصوّر الأمر الجَلل.
فقد رحل العلامَة ابن غديان وترك جرحًا غائرًا في النفوس، وثلمةً كبيرةً في جسدِ الأمة، وأنا إذ أشاطر أهلَه وطُلابه ومحِبّيه الألمَ والحزن، وأقاسِمهم اللَّوعة والأسَى على فراقِه لأسألَ الله جلَّت قدرتُه أن يحسنَ عزاءَنا فيه، وأن يتغمَّده بواسع رحمتِه، ويرفَعَ درجته في المهديِّين، فقد كان -رحمه الله- من القِلَّة القليلة الذين نذَروا حياتهم لخدمةِ هذا الدين، ونفَع الله بهم الإسلامَ والمسلمين، فهو الفقيه المتمكِّن، والأصولي المتقِن، ذو النظر الفَسيح، وصاحب التدقيقِ والتصحيح، كانت له في علوم الشريعة قدَمٌ راسخة، وفي علوم الآلَة قامَة شامخة، سَليم الصّدر، عفيفُ اللسان، قويّ الحجة، واضح البيان، حبِّب إليه العلم ومُصاحبةُ الكتب، يمتاز بالتأني والدّقّة في التعبير، والتثبّت والتحرير، آتاه الله قدرةً فائقةً في استحضار المسائل، وموهبةً فذّة في استخراج الأحكام.
نأى بنفسه عن استشرافِ الدنيا، وعزَف عن الشّهرة، وأعرض عن الظهورِ وتسليط الأضواء رَغم ما كان عليه من العلم والفضل، ورغم ما كان يجده من إقبال الناس عليه، وتوقيرهم له، إلا أنه لم يُغْره ذلك؛ لأنه لم يكن من خُطَّاب المناصب والشّهرة، بل كان بسيطًا يحبّ عدَمَ الظهور، طويل الصمت، كثير الفكرَة، وإذا تكلَّم تدفَّقت الحكمة من كلامِه، مدعومةً بالبرهان الساطِع والدليل القاطِع.
ولد الشيخ عبد الله في مدينة الزّلفي عام 1345هـ، وتلقّى مبادئ العلوم على شيوخها، وبعد أن تعلّم الكتابةَ والقراءة ومبادئ الفنون أخذ يطلب الرزقَ فارتحل إلى الرياض باحثًا عن عمل، وذلك عام 1345هـ. ومضَت سنوات ونفسُه تراوِده في العودة إلى رياضِ العِلم وميادين المعرفة، ولم تزل تحدِّثه نفسُه بذلك حتى عادَ إلى التعليمِ من جديد، والتحق بالمدرسة الابتدائية السعودية عام 1366هـ، وأظهر موهبةً جيّدةً، فلم تمض سنتان حتى تخرّج فيها عام 1368هـ، وبذَّ أقرانَه، وظهر عليهم؛ ولذلك تمَّ تعيينُه مدرِّسًا في المدرسة العزيزيّة.
وفي عام 1371هـ التحَق بالمعهد العلميّ في الرياض، وحظِي بالدراسة على العلماء الأعلام، فقرأ على سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم، والشيخ سعود بن رشود (قاضي الرياض) وغيرهم، وجدَّ في طلبه واجتهد، وحفظ القرآن، وفاق الأقران، وبرَّز في العلوم حتى تخرّج في كلية الشريعة عام 1376هـ.
ونظرًا لما كان يتمتَّع به -رحمه الله- من علمٍ وفَهمٍ عُيِّن رئيسًا لمحكمة الخبر، ثم نُقل مدرِّسًا بالمعهد العلمي. وفي عام 1380هـ عُيِّن مدرِّسًا بكلية الشريعة بالرياض، فتولَّى التدريس فيها بكلّ اقتدار، وأظهر موهبةً فذَّةً في عرض المسائل، وكانت له طريقةٌ متميِّزة في التدريس (ولا أنسى ما أشار به عليَّ من نصائح في طريقة ومهارات التدريس).
وفي عام 1386هـ تمَّ تعيينه عضوًا للإفتاء، ثم في عام 1391هـ عُيِّن للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالإضافة إلى عضويّة هيئة كبار العلماء، وبقِي فيها إلى أن وافوه الأجل.
فهذه أبرزُ محطّات حياته الحافلة بالعلم والعطاء، وإنّه من الصّعب جدًّا الإتيان على تفاصيل حياتِه في هذا الحيِّز الزمني والمكاني.
أمّا صفاته -رحمه الله- فقد كان وقورًا صبورًا، متأنّيًا في كلامه، صادقًا في لهجته، تعلوه هيبةُ العلم، ويزينه تواضعُ العالم، تحلَّى بالعلم، وتسربَل بالأدب، كريم الشِّيَم، مجمَع كنز الأخلاق الحسَنة، والصفات المستظرفة المستحسنة، قويٌّ في دين الله، رحيمٌ بعباد الله، لا يخاف في الله لومةَ لائم، ولا يستنكف أن يقول: "لا أعلم" بتجرُّدٍ كبير، ويحترز دائمًا أن تصدرَ عنه كلمة نابية، أو عبارة ناشزة، يعيد السؤال ليستوثق من السائل، ويحمد الله ويثني عليه قبل كلِّ إجابة، ثم يأتي بالجزل من الكلام، والفصل من الأحكام.
واليوم وقد اخترمته المنيّة، لا نملك إلا أن نعدِّد بعض مآثره، وأعبِّر عمّا يمللأ فؤادي من لوعَة ابنٍ بارٍّ على فَقد والده لأشارِك المشجين المكلومين ألمهم وأقول: عزاؤنا فيه أن الموتَ حقٌّ، وأنه وإن رحل عنّا بجسده فسيظلّ حبُّه خالدًا في شغافِ قلوبنا، وستظلّ ذكراه الحميدةُ في ألسنِنا ومخيّلات أفكارنا، وستبقى سيرته العطِرة حيّةً بيننا. بل وسيبقى نور علمه ساطعًا في أرجائِنا، وصدى فتاويه يجلجِل في مسامعنا.
ستذكُرك -يا شيخَنا- عويصاتُ المسائل كلّما حارت الأفهام، وستذكُرك مجالس الدروس كلّما تحلَّق حولها الطلاب، وسيذكرُك "نور على الدرب" مدى الأيام، وسيبكيكَ طلابُك ومحبّوك الذين كادَت قلوبهم تنماع حسرةً على فِراقك، وتقاطروا من كلِّ صوب لشهود جنازتك وألسنتُهم تلهج دعاءً وأعينُهم تفيض من الدّمع حزنًا على فَقدك.
إنها العِزّة الحقّة والله! مشهد عجيب اكتظَّ به المكان على الرغم من قِصَر الزمان، فتنادى المحبون لتشييع حبيبِهم، ولم يحدهم في ذلك طَمع ولا خوفٌ، بل إجلالٌ للعلم وإكبارٌ للعالم وكما قيل: وعند الجنائز تظهَر الحقائق.
فإلى الله نحتسب علماءَنا، ونسأله تعالى أن يعوِّضنا في فقدهم خيرًا، ويجبر كسرَنا في فراقهم، ويبارك لنا في عمر من بقي منهم، ويمتِّعنا بحياتهم، فإنَّ رَحِم العلم وِلادة، ولا يزال الخير في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وصدق القائل:
نجوم سماء كلّما انقض كوكب بدا كوكب تأوي إليه الكواكب
كتبه/ أ.د عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن الفريح
أستاذ الحديث ورئيس قسم فقه السنة بكلية الحديث الشريف بالجامعة الإسلامية
المدينة المنورة 2/7/1431هـ